منذ 30 آذار (مارس) الأخير، ورغم القمع الإسرائيليّ الوحشيّ، يتظاهر مدنيو غزّة لتأكيد حقّهم الثابت في العودة. لا تزال روح المقاومة، المتشكلة على مدى يقارب قرناً من الانتفاضات والنضالات، حيّة في مواجهة مشروع الاستعمار القائم على السلب والحصار. لم يتوقف الفلسطينيّون عن رفضهم الاستعمار والاحتلال، رغم اختلال ميزان القوى والرغبة الإسرائيليّة التدميريّة في تقويض أسس حياتهم الاجتماعيّة.توجد في الغرب تعمية متكررة على الطبيعة الاستعماريّة للصراع في فلسطين، لمصلحة تفسيرات دينيّة أو مقاربة ترى أنّ الصراع بين قوميّتين، أو حتى تفسيره بوصفه فشلاً لمسار بناء «السلام» (كما لو أنّ الاستعمار الاستيطاني المرتبط بنفي الحقوق يمكن أن يؤدي إلى السلام)، لكنّ ذلك لا يمكن أن يحول دون موازاته بصراع استعماريّ آخر جرى في القرن العشرين، تمّ خلاله وصف النضال التحرريّ زيفاً بأنّه «أحداث» بغية نفي حقيقة وجود ثورة شعبيّة ضدّ الطغيان الاستعماريّ. رغم اختلاف السياق والتجربة، توجد تطابقات كثيرة بين الحالتين الجزائريّة والفلسطينيّة.

سلب الأراضي
في الجزائر كما في فلسطين، مثّل السلب الاستعماريّ واقعة تاريخيّة ثقيلة خلّفت آثاراً مريعة. وكما يُذكّر المؤرخ الفرنسيّ الراحل جيلبار مينير، صادرت القوّة الاستعماريّة الفرنسيّة من الجزائرييّن 2.9 مليون هكتار تمثّل «ثلث حجم الأراضي، لكن أجودها». مُنحت الأراضي للمستوطنين وبخاصّة المطرودين من فرنسا عقب الحركات الثوريّة لعامي 1848 و1871 أو أولئك المنتمين إلى «طبقات خطيرة» الذين أظهروا حميّة أكبر من العسكريّين لمصلحة مشروع استعباد السكان المحليّين.
لكن، بينما كان المشروع الاستعماريّ الفرنسيّ في الجزائر مُصمَّماً ليثري المركز الاستعماريّ من خلال استغلال السكان المحليّين، يسعى المشروع الصهيونيّ في فلسطين إلى تثبيت المستوطنين الراغبين في تعويض السكان الأصليين بتأسيس مجتمع جديد، ولم يكن مشروع خلق بؤرة يهوديّة لينجح في غياب المساهمة العسكريّة النشطة للقوّة الاستعماريّة البريطانيّة. كان المشروع الصهيونيّ إذاً مرتبطاً عضوياً منذ البداية بالاستعمار ــــ الإمبرياليّة الأوروبيّة ولم يتحقّق إلا في إطار الاحتلال العسكريّ المكثّف للإنكليز الذين سهّلوا نقل وغرس المستعمرات اليهوديّة الغربيّة الأولى في أرض عربيّة.
في فلسطين، شُيّد الكيان الصهيونيّ على أنقاض قرى ممحوّة وأحياء مدمّرة وعلى حساب محو الثقافة المحليّة لنفي وجود شعب فلسطينيّ حتّى. في 1995، صمّم المؤرخ صالح عبد الجواد، في إطار برنامجه لجمع شهادات الناجين الذي يحمل اسماً دالاً هو «سباق ضدّ الزمن»، خريطة للتجمعات الفلسطينيّة تشمل 531 مدينة وقرية وقع إخلاؤها من سكانها الأصليّين. أما السرديّة الأسطوريّة التي حملها التأريخ الإسرائيليّ التقليديّ والتي تُصوّر مشروع التطهير الإثنيّ لـ«خطة دالت» على أنّه نزوح طوعيّ، فلم تُهزم نهائيّاً إلا في منتصف الثمانينيات. وقد أكد نشر أعمال «المؤرخين الإسرائيليّين الجدد» أطروحة وجود خطّة هجوميّة تهدف إلى تفريغ القرى الفلسطينيّة، لكن بالنسبة إلى بيني موريس، وهو أحد قادة هذه المدرسة، يعتبر التطهير الإثنيّ مبرراً بوصفه ضرورة تاريخيّة.
توجد تبريرات استعمار وهيمنة من شعب على آخر في التأريخ الفرنسيّ التقليديّ الذي سيطرت عليه لمدة طويلة مقولات عرقيّة ونظرة ثنائيّة تقابل بين «الحضارة» و«البرابريّة». وتستمر بعض التمثيلات الأسطوريّة التي صاغها الاستعمار في تغذية التصورات الجماعيّة، على غرار التنافر بين العربيّ البرابريّ من جهة، والبربريّ الأقرب إلى الشعوب المتحضّرة من جهة أخرى، أو تلك المرتبطة بـ«نكبة» البربر التي بدأت مع الاجتياحات الهلاليّة (نسبة إلى قبائل بني هلال)، ولا تزال تلك الأساطير تُغرق خطاب الحركات الهوياتيّة البربريّة الأكثر تطرفاً.
على غرار الجزائريّين في ما مضى، يُنكر على الفلسطينيّين وجودهم كشعب. وتُذكّر مأسسة التمييز ضدّ الفلسطينيّين بـ«قانون الأهالي» في الجزائر الذي وُجد إلى حدّ عام 1927 وكرّس قانونيّاً هيمنة شعب على آخر. رفض وجود مواطنة مشتركة ملمح ملازم للسياسة الاستعماريّة التي تعامل الأهالي بوصفهم أدنى مكانة، فحتى القانون الفرنسيّ لعام 1947، الذي أقام مجلساً ينتخب فيه المستوطنون والأهالي عدداً متساوياً من النواب، لم يغيّر مكانة الأهالي، فوفقاً للحصص السكانيّة يتساوى ناخب فرنسيّ واحد مع ثمانية ناخبين جزائريّين.
وعلى غرار الجزائر التي كان النظام الاستعماريّ فيها غير قابل للإصلاح لاحتوائه على نفي لقدرة الأهالي على الحكم، نظراً إلى انتمائهم إلى عرق أدنى، لا يمكن للدولة الاستعماريّة في فلسطين أن ترضى بغير خضوع السكان العرب ومأسسة اللامساواة تجاههم.
وأثبتت الوقائع أن «مسار السلام» لا يمكن أن يكون غير استمرار للاحتلال والاستعمار بأدوات أخرى. أظهرت الممارسات الاستعماريّة بطلان أطروحة السلام العادل بين دولة غازية وشعب مضطهد وسليب. في واقع الأمر، ضاعفت جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم الدولة الإسرائيليّة منذ عام 1967 السياسات الحاثّة على تشديد إعمار المستوطنات، بتقديم مساعدات عموميّة للاستثمار ومزايا ضريبيّة وضمان الحماية العسكريّة للمستوطنين الذين تجاوز عددهم 600 ألف.
يحوي التاريخ الداخليّ لجميع الدول الاستعماريّة تناقضات المجتمع الاستعماريّ والصراعات بين المستعمِرين والمستعمَرين، وينتهي الأمر دائماً بالتشكيك في استقرار السلطة وإمكان دوامها.
أحدثت مقاومة الاستعمار في الجزائر وفلسطين تغييراً بالغ الأهميّة: المطالبة بالأرض ونهاية الرؤية الحضاريّة غير المرتبطة بالأرض. فكما يُذكّر المفكّر اللبنانيّ زياد حافظ، كان للأرض في العالم العربيّ الإسلاميّ أهميّة ثانويّة، حيث تتأسس الهويّة على الانتماء إلى الأمّة، لكن في الصراع ضدّ الاستعمار حظيت الأرض بأهميّة مركزيّة. في فلسطين، يدور الحديث حول عروبة الأرض، ووضعت الحركة الوطنيّة اتحاداً مقدّساً يدور حول هذه القيمة المشتركة في مواجهة نفيها من قبل القوى الانتدابيّة والحركة الصهيونيّة، بينما مثّل المرجع القوميّ العربيّ والدينيّ في الجزائر قوّة حشد اجتماعيّ وسياسيّ في المقاومة الثقافيّة للهيمنة الاستعماريّة.
بعيداً عن التضامن العربيّ، دعّمت الروابط الوليدة بين المناضلين الوطنيّين الجزائريّين و«الإخوان المسلمين» في مصر، خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات، العصب الإسلاميّ في تكوين الهويّة والوطنيّة السياسيّة، وتظهر مركزيّة هذه المرجعيّة الثقافيّة العربيّة والإسلاميّة في عبارة عبد الرحمن بن باديس «الإسلام ديننا والعربيّة لغتنا والجزائر وطننا».
وفي كلا السياقين، بقيت المقاومة حيّة، تتفاوت درجة حدّتها وأشكالها بكلّ تأكيد مع تطوّر علاقات القوّة، لكنّها لم تخفت يوماً. عبّرت المقاومة الجزائريّة عن نفسها بالنضال المسلّح بدرجة أولى، في انتفاضات متعدّدة طبعت التاريخ وقُمعت جميعها بقسوة، منذ تمرّد المقراني في 1871-1872 وصولاً إلى الانتفاضة في قسنطينة في أيار (ماي) 1945، مروراً بانتفاضات منطقة القبائل وتمرّد ولد سيدي الشيخ في 1864 ومنطقة الأوراس في 1879 وتمرّد الشيخ بوعمامة جنوب وهران في 1881-1882 وتمرّد بلزمة في 1916-1917. وتفجّرت الثورة الجزائريّة الشعبيّة مرّة أخرى في 1954 لتنتصر على الاستعمار في 1962.
في فلسطين، بعد ثورتَي 1929 و1936 وهزيمة الحروب العربيّة، مثّل النضال المسلّح المستلهم من نضال الشعب الجزائريّ الطريق الناجع الوحيد للتحرير. لكن مع الإخفاق المزدوج في الرهان على أراضي 1967 كبؤرة للمقاومة المسلّحة واستراتيجيّة توسيع النضال المسلّح إلى البلدان العربيّة، ترسّخت المقاومة المدنيّة والحشد الشعبيّ، اللذان استوعبا تدريجيّاً جميع شرائح المجتمع، بوصفهما الأداة الأكثر نجاعة للنضال ضدّ الجور الاستعماريّ.
من استعمار استيطانيّ إلى آخر، لم يحبط ثقل التدمير الاجتماعيّ والنفسيّ ولا حدّة الصدمات الإرادة الجماعيّة للمقاومة.