الجزائر | في مثل هذه الأيام قبل 62 عاماً، عاشت معاقل الثورة في الجزائر أجواء غير عادية ميّزها النقاش المثير بين القيادات للمساهمة في إعداد تقارير لمؤتمر عام تعقده الثورة «في زمان ما ومكان ما» لتقييم مسارها وتعزيز مناهجها وترشيد توظيفها لقواها. ولقد سمي ذلك المؤتمر في ما بعد «مؤتمر الصومام»، وهو اسم نهر يجري على مدار العام ويصب في البحر المتوسط عند المدخل الجنوبي لمدينة بجاية أكبر وأعرق مدن منطقة القبائل، وقد اعتبر المؤرخون أنّ هذا المؤتمر هو «النفس الثاني للثورة».كان لهيب الثورة ينتشر في كل مكان، يقابله قمعٌ ندر مثيله من جيش الاحتلال وإدارته. كانت المواجهات المسلحة محتدمة، وكانت الاعتقالات والإعدامات وهدم القرى والبلدات وبناء مزيد من المراكز العسكرية والثكنات... لكن بين معركة وأخرى، وبين عملية فدائية وأخرى، وقصف مدفعي وجوي من العدو، يجد الثوار فسحة لتسجيل ملاحظات عن مسار الثورة خلال 20 شهراً مضت كانت مليئة بالإنجازات والأمل، وبالأحزان والحيرة والخوف أيضاً.
حين توفرت الشروط الأمنية والتنظيمية لعقد المؤتمر، صدرت تعليمات بتشكيل وفود من قيادات كل المناطق وتحركها عبر الممرات الآمنة وعلى مراحل، واستدعى وصولها أياماً عدة بالنظر إلى صعوبة التنقل في ظل الانتشار الكثيف لقوات الاحتلال ورقابتها ليل نهار، براً وجواً. وغاب ممثلو عدة مناطق عن المؤتمر بسبب الحصار أو لمشاكل داخلية في جسد الثورة، كما غاب الوفد الخارجي المقيم في القاهرة، إذ عاد حسين آيت أحمد ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة ومحمد خيضر أدراجهم من روما بعد نصائح بعدم المغامرة كونهم كانوا مطاردين من الاحتلال وسيكون دخولهم فرصة لاعتقالهم.
انطلقت أشغال المؤتمر بإشراف اثنين من الزعماء الستة الذين قادوا تفجير الثورة في الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، وهما العربي بن المهيدي، وكريم بلقاسم، وكان اثنان آخران من تلك القيادة وقتها قد سقطا في ميدان الشرف وهما ديدوش مراد، ومصطفى بن بولعيد، وخامس في السجن قبل ذلك بعام هو رابح بيطاط، فيما تعذّر على السادس الدخول من الخارج، وهو محمد بوضياف.
عُقد المؤتمر في سرية تامة بمكان يصعب على الاحتلال بلوغه، وفي ظل إجراءات أمنية مشددة وفرها القادة الميدانيون للثورة. شهد المؤتمر تشريحاً لوضع الثورة (صعوباتها ومخاطر التشرذم التي تهددها)، باعتماد النقد الصريح والنقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء والتجاوزات التي صدرت من بعض القيادات ودفعت ببلدات وقرى إلى الاحتماء بالمحتل والارتماء في أحضانه.
وقعت مواجهات كلامية، بحسب ما نَقل من عايشوا الزمان والمكان، لكن في النهاية التزم الجميع بالقرارات التي أفرزها ذلك النقاش الساخن. وصدرت عن المؤتمر لوائح سياسية واجتماعية وعسكرية وتنظيمية جُمعت في وثيقة سميت «ميثاق الصومام» الذي أسس لبناء الهيكل التنظيمي للثورة أفقياً وعمودياً. وتمّ تقسيم البلاد إلى ولايات تقودها هيئات عسكرية وسياسية متشابهة ترتبط بشكل مرن بالهيكل التنظيمي العام. وكان ذلك بداية التأسيس لقيادة مركزية للثورة.
قبل المؤتمر، كان العمل الميداني يخضع لتقدير قيادات محلية في كل جهة من دون الاستناد إلى أوامر وتعليمات موحدة للعمل الثوري. وقرر المؤتمر تنويع أساليب الكفاح بابتكار طرق موازية ومؤازِرة للعمل العسكري، أهمها تنشيط المجال الدبلوماسي عبر تشكيل وفود إلى الخارج للتعريف بالثورة وتكوين منظمات تشكّل روافد للعمل السياسي والعسكري للثورة والتواصل مع كل القوى الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تلتحق بالكفاح الوطني بمختلف أنواعه، بما فيها الزعامات التقليدية للأحزاب التي كانت تنشط قبل اندلاع الثورة، ومع القوى الديموقراطية والتقدمية والإنسانية الفرنسية، والأوروبية عموماً. وذلك بالإضافة إلى الاستثمار في كل ما يمكن أن يصب في صالح الثورة، بما في ذلك توظيف الفنون والرياضة. وقد اعتمدت الثورة، ثم الدولة الجزائرية، «مؤتمر الصومام» على أنّه المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني.
بعد اثنين وستين عاماً من ذلك المؤتمر الذي وُصف بكونه «النفس الثاني للثورة»، لا يزال كثيرون يطرحون السؤال: ما لزوم عقد مؤتمر وسط جحيم الثورة؟ ولا تزال نتائجه تغذّي جدلاً من منطلقات ذاتية في معظم الأحيان ونتيجة خلافات بين الثوار توارثتها الأجيال وترددها عند كل نقاش تاريخي حول الثورة بما يسيء إليها وليس بما يُكرّس وحدتها وسخاءها. ولم يُفصل بالأمر حتى اليوم كون الكتب المدرسية في مادة التاريخ لم تتناول غير القشور بلغة ديماغوجية منفّرة، مع أنّ انطلاقة الفكرة هي قصةٌ بسيطة ومشوّقة في آن يمكن أن تكون عاملاً من عوامل تحصين الانتماء لثورة قلما ابتكرت ثورة أخرى أساليب عمل مماثلة لها. فلقد كانت البداية برسالة متواضعة من زيغود يوسف، قائد منطقة شمال قسنطينة بشرق البلاد، إلى العربي بن المهيدي في العاصمة، طلب منه عقد مؤتمر جامع لأنّ الثورة صارت في خطر ولا يمكنها الاستمرار على حالها.
أعطت الرسالة صورة الحصار الذي يمارسه ضباط وجنود جيش الاحتلال على كامل شرق البلاد وأخبرت بأنّ الجيش الفرنسي يبني المزيد من الثكنات والسجون والمحتشدات والمراكز المتقدمة حتى على أعلى قمم الجبال للتضييق على الثوّار، وبأنّ الثورة صارت مقطوعة الأوصال، يهددها بالتفكك والتيهان.
رسالة البطل زيغود يوسف كانت صرخة إنقاذ وصلت إلى العربي بن المهيدي ودرسها مع من صار يلقب بمهندس المؤتمر ومنظّر الثورة عبان رمضان، واتفق الرجلان مع أعوانهما على تجسيدها كونها تعطي جرعة جديدة للثورة سياسياً وعسكرياً، وكونها حاجة ملحة لإعادة ترتيب البيت.
من أجمل ما في الرسالة أنّ زيغود يوسف، وهو أحد الزعماء الـ22 الذين قرروا في ربيع 1954 التخلي عن النضال السياسي وتبنوا الكفاح المسلح منهجاً للتحرير، مستواه الدراسي لا يتعدى الشهادة الابتدائية (شهادة يحصل عليها التلميذ بعد دراسة سبع سنوات في المدرسة الفرنسية)، ولكنه يعرف تفاصيل عن تاريخ بلده المغيّب تماماً في البرنامج الدراسي الفرنسي. فلقد اقترح أن يُعقد المؤتمر الجامع في «منطقة الصومام» ليس فقط لكونها محصنة أكثر من غيرها والثورة فيها منظمة وقوية ومتجذرة أكثر من غيرها من المناطق، ولكن أيضاً لسبب تاريخي بارز. ففي هذه المنطقة عقد جنرالات وإداريو فرنسا عام 1872 مؤتمراً قرروا فيه أن تسري القوانين الفرنسية على الجزائر كمقاطعة تابعة لها. وفي ذلك المؤتمر، تمّ تقسيم البلاد إلى ثلاث مقاطعات، هي وهران والجزائر وقسنطينة، على رأس كل منها حاكم إداري بعدما كان الحكم قبلها عسكرياً صرفاً. وتقرر أيضاً إحصاء سكان الجزائر وترتيبهم وفق ألقاب تُدوّن على سجلات الحالة المدنية مثلما يحدث في فرنسا. انعقد المؤتمر الفرنسي في مكان خال على الضفة الشمالية للنهر المذكور، على نحو 20 كيلومتراً إلى الغرب من مدينة بجاية. ولتخليد المؤتمر، أقام الفرنسيون في المكان أوّل مستوطنة بالمنطقة سميت «Reunion». وقد صارت تلك المستوطنة اليوم بلدة كبيرة باسم «واد غير»، خاصة بعدما ألغى مؤتمر الصومام «الثوري» مؤتمر الصومام الاستيطاني.
ولأنّ الثورة سخيّة، فقد كرّمت البطل زيغود يوسف، بأن اختارت عقد مؤتمرها في الذكرى السنوية الأولى لهجوم كاسح كان قد قاده بنفسه على مراكز أمنية واقتصادية وإدارية فرنسية في العشرين من آب/أوت 1955 لتشتيت جهود جيش الاحتلال وفكّ الحصار عن منطقة الأوراس. ومنها، صار التاريخ المزدوج يحمل اسم «يوم المجاهد».