تونس | ما انفك ثقل الاقتصاد الموازي (غير المهيكل) يتعاظم في تونس ليقارب نسبة 40 بالمئة من الناتج الداخلي الخام وليصبح محرّك سوق الشغل في البلاد. التهريب ليس إلا قمة جبل الجليد، فهذا النمط من الاقتصاد له عدة وجوه أخرى: أرباح التهرب الضريبي، الأنشطة الاقتصادية ومحال العمل غير المسجلة، العمل من دون عقود، الخ. تندد الدولة التونسية بالاقتصاد الموازي آناء الليل وأطراف النهار وتعتبره العدو الأول للاقتصاد التونسي وأحد أهم معوقات نموه. يؤيدها في ذلك جيش من «الخبراء والمحللين» الذين يعتبرون أنّ بائع السجائر المهرّبة في سوق شعبي يعتبر أخطر على البلاد من رجال الأعمال المتهربين جبائياً والسياسيين الفاسدين والفاشلين والارتهان للمؤسسات المالية الدولية. المشكلة أنه عندما نتثبت في ممارسات الدولة وسياساتها، نجد أنّها هي المتسبب الرئيسي في تطور الاقتصاد الموازي والراعي الأول له.
سياسات اقتصادية وتنموية فاشلة
لم تبذل دولة الاستقلال جهداً كبيراً لإعادة التوازن الاقتصادي والتنموي بين الجهات بعدما ركّز الاستعمار أغلب الأنشطة الصناعية والتجارية على الشريط الساحلي (شرق البلاد). حتى توجُّه الدولة في بداية الستينيات للإصلاح الزراعي وبناء صناعات وطنية (تجربة التعاضديات الاشتراكية)، سرعان ما تراجعت عنه مع بداية السبعينيات عندما اختارت النهج الليبرالي. شيئاً فشيئاً، رسخت الدولة اقتصاداً يقوم أساساً على السياحة والزراعة المتجهة للتصدير والصناعات الخفيفة مع تشجيعات كبيرة للمستثمرين الأجانب. المدن الكبرى زادت تضخماً بحكم وفود مئات آلاف الفقراء من المدن المهمشة للعمل والدراسة.
المناطق الحدودية التي تعتبر بوابات للتهريب و«معاقل» للاقتصاد الموازي تقع ضمن المناطق الأكثر تهميشاً، سواء كان ذلك في زمن الاستعمار أو بعد الاستقلال. أرقام «مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد» (تعليم وصحة وظروف عيش وعمل، حسب معطيات سنة 2014)، تُظهر أنّ المحافظات الحدودية في تونس هي الأفقر تقريباً، وخصوصاً تلك الواقعة على الشريط الغربي أي بالقرب من الحدود الجزائرية: 31.40 بالمئة من السكان في كل من محافظتي تطاوين وقفصة، 56.24 في القصرين، 40.15 في محافظة الكاف، 48.6 في محافظة جندوبة، علماً بأنّ النسبة الوطنية هي 28.97.
هذه المحافظات تُسجّل أيضاً أكبر نسب بطالة في البلاد. ففي حين يبلغ المعدل الوطني 15 بالمئة، نجد أنّ ولاية تطاوين المحاذية لليبيا (الجنوب الشرقي) تصل النسبة فيها إلى 32 بالمئة، ونفس الشيء بالنسبة الى المحافظات الحدودية المحاذية للجزائر (الشريط الغربي للبلاد): 28.8 في قفصة، 20.9 في توزر، 21.7 القصرين، 20.1 في جندوبة (بحسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء، معطيات الثلاثي الثاني سنة 2016).
عندما تترك الدولة المحافظات الحدودية الفقيرة لمصيرها، وعندما يكون أغلب وجودها هناك زجرياً وقمعياً (جيش، شرطة، ضرائب)، فليس من حقها إعطاء دروس في المواطنة والوطنية للأهالي الذين يشتغلون في التهريب وبقية أشكال الاقتصاد الموازي.

سياسة جبائيه ظالمة
نظام الجباية في تونس يقوم على الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة. يشمل الصنف الأول الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات، فيما يشمل الصنف الثاني، أساساً، الضريبة على القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك وتسجيل العقود والعقارات وأرقام المعاملات. بالإضافة الى التعقيد، فإنّ هذا النظام ظالم لعدة أصناف من دافعي الضرائب. المظهر الأول للظلم هو أنّ الأُجراء (أساساً متوسطو الحال والفقراء منهم) يدفعون 83 بالمئة من مداخيل الضرائب المباشرة، في حين تدفع الشركات 15 بالمئة ويدفع أصحاب المهن الحرة والحرفيون والتجار 2 بالمئة. المظهر الثاني للظلم هو التفاوت بين أنظمة استخلاص الضريبة على الدخل والأرباح، ففي حين تقتطع ضرائب الأُجراء قبل أن تصلهم أجورهم وتدفع الشركات ضرائبها وفق نظام حقيقي (مع مسك محاسبة)، فإنّ هناك مئات الآلاف من التونسيين يتمتعون بالنظام الجبائي التقديري ويشمل المهن الحرة والتجار والحرفيين وأصحاب المطاعم والمقاهي التي لا يفوت رقم معاملاتهم السنوية مئة ألف دينار. يقوم هذا النظام على تصريح تلقائي بالدخل: يختار المنتفع بهذا النظام المبلغ ويصرّح به ثم تحتسب الضريبة المستوجبة حسب هذه القاعدة: 75 ديناراً سنوياً بالنسبة للأشخاص المنتصبين خارج مناطق البلدية و150 ديناراً سنوياً بالنسبة الى الأشخاص المنتصبين بالمناطق الأخرى وذلك بالنسبة إلى رقم المعاملات الذي يساوي أو يقل عن 10 آلاف دينار، و3 بالمئة بالنسبة إلى رقم المعاملات بين 10 آلاف دينار ومئة ألف دينار.
ظهور أثرياء جدد يراكمون ملايين الدينارات أصبح أمراً عادياً


ما تقدّم يعني أنّ منتفعاً يحققُّ رقم معاملات يناهز الثمانين ألف دينار سنوياً (هذا إنْ كان الرقم المصرّح به صحيحاً) سيدفع 2400 دينار فقط، في حين يدفع موظف صغير أو «معلّم» لا يتجاوز مدخوله السنوي 15 ألف دينار حوالى 20 بالمئة من دون أي إمكانية للتهرّب، إذ إنّ دخله معلوم للدولة.
الشكل الثالث للظلم الجبائي في تونس يخصّ الشركات: تتمتع الشركات الأجنبية بامتيازات جبائية وإعفاءات جمركية لا تتمتع بها المؤسسات التونسية. لا يكفي أنّ الاقتصاد التونسي ضعيف وغير تنافسي، ولا يكفي أنّ الدولة ما انفكت تفتح الأسواق أمام البضائع الأجنبية، لكن يُضاف إلى كل هذا تمييز جبائي لمصلحة الأجنبي. مثال على ذلك ما يسمى «الشركات المصدّرة كلياً» وهي مؤسسات يكون 66 بالمئة من رأسمالها مملوك لأشخاص غير مقيمين ضريبياً (تونسيون أو أجانب) ويكون نشاطها موجهاً كلياً للأسواق الخارجية. تدفع هذه الشركات 10 بالمئة ضرائب مقابل 25 بالمئة بالنسبة الى الشركات التونسية، كما أنّه يمكنها تحويل أرباحها إلى الخارج بالعملة الصعبة وبيع 50 بالمئة من إنتاجها في السوق المحلية.
الشكل الرابع للظلم هو ضعف الرقابة. فهناك آلاف المؤسسات الصغيرة وأصحاب المهن الحرة ممن لا يصرحون بدخلهم أصلاً أو لا يعطون أرقاماً صحيحة، ويظهر عليهم الثراء بكل أريحية من دون أن تتحرك الدولة. الذين يدفعون ضرائب أكثر من غيرهم هم الأكثر فقراً، أو الأكثر أمانة.

بيروقراطية خانقة
رغم كل الخطاب الرسمي حول تسهيل إقامة المشاريع الصغرى والمتوسطة، وخصوصاً بالنسبة الى الشباب، فإنّ الواقع مغاير تماماً. حتى عندما يتوفر لك رأس المال اللازم لإقامة مشروع، يجب أن يكون لك «صبر أيوب»، أو «أكتاف قوية» تسهّل لك المعاملات. من يفكر في إقامة مشروع سيتوجب عليه تحضير مجلدات من الوثائق والضمانات، ويجب عليه أن يتهيأ نفسياً لرحلة في نصف إدارات البلد. رحلة شاقة ومكلفة وقد تنتهي في كثير من الأحيان برفض الترخيص للمشروع. طبعاً من حق الدولة أن تتثبت من تطابق الملف مع القوانين والتراتيب وأن تتحرى شبهات الفساد وغيرها، لكن المشكلة أنّ كل هذا التعطيل والتعقيد لا يتأتى من حرص على قانونية الملف وشفافية المعاملات: تونس تحتل المرتبة 74 عالمياً حسب مؤشر مدركات الفساد (منظمة الشفافية الدولية 2017) بـ 42 نقطة على مئة، كما أنّها أُدرِجت من طرف الأوروبيين في قائمة الملاذات الضريبية أواخر سنة 2017 وضمن قائمة الدول الأكثر عرضة لتبييض الأموال في شباط/ فيفري 2018.
يتعلق الأمر أساساً بتداخل الصلاحيات والإدارات في نفس الملف وضرورة الحصول على توقيعات تتطلب المرور بتراتبية معقدة. هذه البيروقراطية الخانقة تفتح من جهة الأبواب أمام الفساد والمحسوبية، ومن جهة أخرى تجعل الكثيرين يفكرون ألف مرة قبل عرض ملفهم والتفكير أصلاً في إقامة مشروع قانوني ومهيكل. وهذا يعني أنّ هناك مؤسسات كانت ستنشط وتدفع ضرائب وتُشغِّل عمالاً يدفعون ضرائب بدورهم ويساهمون في الدورة الاقتصادية، لن تفتح أبوابها، وأنّ هناك أموالاً لن تذهب للاستثمار وستظل في البنوك أو سيتم استثمارها في واحد من أشكال الاقتصاد الموازي.

أزمة قيمية
السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة لم تشهد فقط تسارع نسق نهب البلاد، بل كانت أيضاً سنوات مظلمة من حيث انهيار المنظومة القيمية للمجتمع. رأسمالية المحاسيب التي رسخها النظام التونسي منذ أواسط التسعينيات كانت مدمرة للاقتصاد وللمناعة الأخلاقية للمجتمع.
تحالف العائلة الحاكمة (أهل الرئيس وأصهاره) و«رجال الأعمال» (كثيرون منهم مهربون كبار)، أخضع الدولة تماماً وجعل من أجهزتها الإدارية شرطة مرور ومن أجهزتها الرقابية (الجمارك، مصالح الضرائب، أجهزة مراقبة الأسواق والأسعار) شاهد زور على الفساد.
تكوّنت ثروات ضخمة في فترات وجيزة وظهر أثرياء جدد لم يخفوا «نعمة الله عليهم». هذه الطبقة الجديدة المهيمنة فرضت «قيمها» على المجتمع شيئاً فشيئاً، وأصبح الالتحاق بها حلم الكثيرين... استشرت ثقافة الربح السريع وكان من الطبيعي أن يتجه الحالمون بالثراء إلى الأنشطة غير القانونية وإلى الانخراط في منظومة الفساد والإفساد. في الوقت نفسه، كانت ثقافة الكسب المشروع والمعقول تندثر وأزمة البطالة تتفاقم واهتراء الطبقات الوسطى يتسارع وفقدان التعليم لدوره كمصعد اجتماعي يترسخ.
هذه الأزمة القيمية سيكون تأثيرها أكثر حدّة على الشباب الذين يعانون من البطالة ومن ضعف الأجور وانسداد الأفق، في حين يرون كيف يعيش أندادهم في الغرب وكيف أنّ هناك شباباً في سنّهم من أبناء بلدهم أصبحوا أثرياء في مدة وجيزة بوسائل غير شاقة ومن دون حاجة الى شهادات أو خبرة. الكثيرون بدأوا يلتجئون إلى البدائل الأسهل و«الأنجع»: الهجرة غير النظامية، الأعمال الإجرامية، وبالطبع التهريب والاقتصاد الموازي بمختلف أنشطته.
هذا غيض من فيضِ رعاية الدولة للاقتصاد الموازي وتوفيرها المناخ الملائم لانتعاشه. كل هذا من دون أن نتحدث عن تواطؤ أجهزة الدولة من حرس حدود وجمارك والقوى الأمنية التي تراقب الطرقات. فمثلاً تهريب أطنان من مختلف السلع يومياً وتوزيعها في كامل أرجاء البلاد بشكل طبيعي ودوري لا يمكن أن يحدث من دون حماية من السلطات.
ظهور أثرياء جدد يراكمون ملايين الدينارات في سنوات قليلة من دون أن يكون مصدر أموالهم معلوماً، أصبح أمراً عادياً ولا يثير شكوك القوى الأمنية ولا مصالح الضرائب. كما أنّ «من قلّة الذوق» أن تشتكي الدولة من خسائرها جراء تهريب السلع، في حين توقّع اتفاقات تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي تعفي كل البضائع والخدمات من المعاليم الجمركية.