بعد الاستقلال مباشرة كان الشيوعيون القوة السياسية الوحيدة التي يمكن أن تجتمع بأسرع وقت خارج سياق المصالح لأن الباقي شتات جمعت بعضه المصالح وفرقته عن بعضه الآخر المصالح أيضاً... اجتمعوا فعلاً حول إعادة بعث جريدة «الجزائر الجمهورية». أحيوها فعلاً وصارت أهم صحيفة في البلاد للخاصة والعامة على السواء. كانت جريدة الرئيس أحمد بن بلة الأولى وجريدة أعضاء الحكومة والبرلمان وكل النخبة السياسية بمن فيهم من لا يتفقون مع فكر الحزب وجريدة كل من يحسن القراءة. ما دفع الرئيس ومحيطه إلى طلب إلحاقها بجبهة التحرير كلسان مركزي له. وهو ما يستدعي مراقبتها وتغيير خطها ليكون مناسباً للفريق الحاكم عوض أن يكون مناسباً للخدمة العمومية المستقلة القادرة على المناورة. قَبِل الحزب إعطاء الجريدة لجبهة التحرير ونشرت على صفحتها الأولى عنواناً بالخط العريض عند نهاية مؤتمر الجبهة في 1964: «الجزائر الجمهورية ستصبح اللسان المركزي لجبهة التحرير». قدمها الحزب على طبق من فضة تماماً كما فعل مع «المقاتلين من أجل الحرية» بلا مقابل. ولم تمض على «الهدية» إلا أسابيع حتى بدأت المطاردة ضد الشيوعيين ومنع نشاطهم كتنظيم بناء على اختيار نظام الحزب الواحد. ثم صدر قرار على أثر الانقلاب العسكري في جوان 1965 مشابه تماماً لقرار المنع الذي أصدرته سلطات الاحتلال عام 1955 بسبب مواقفها من القمع ضد المدنيين الجزائريين وطاردت طاقمها التحريري والإداري. ونتج من الانقلاب اعتقال الأمين العام للحزب البشير حاج علي وتعذيبه من البوليس العسكري بالطرق نفسها التي عذب بها المظليون الفرنسيون رفيقه الشهيد البطل موريس أودان خلال الثورة التحريرية. البوليس عذب البشير حتى شبه الموت كي يفشي أسرار التنظيم السري لـ«حزب الطليعة الاشتراكية» (الاسم الجديد للحزب الشيوعي المعتمد منذ كانون الثاني/ يناير 1966). والمظليون عذبوا موريس حتى الموت كي يفشي لهم أسرار التنظيم الثوري في العاصمة. كتم البشير السر وكتم موريس السر من أجل الجزائر. هما اختارا في لحظة الحسم أن يعيش أمل الحرية من دونهم على أن يعيشا هم من دون أمل ومن دون حرية.
بعد الاستقلال كان الشيوعيون القوة السياسية الوحيدة التي يمكن أن تجتمع بأسرع وقت خارج سياق المصالح
وفي بداية السبعينات لما تغيّر ميزان القوى داخل جهاز الحكم لمصلحة اتجاه التنمية والتقدم بقيادة الرئيس هواري بومدين، لعق البشير حاج علي ورفاقه جراحهم وكرروا ما فعلوه عام 1956 حين ألحقوا تنظيم «مقاتلي الحرية» المسلح بجيش التحرير الوطني خدمة للوحدة وانتصاراً للثورة. هذه المرة أيضاً وضعوا خبرتهم وشبكتهم التنظيمية في خدمة تحقيق أهداف التنمية بقيادة غيرهم وصار أهم «قوة اقتراح» ضمن نهج «المساندة النقدية» في نكران تام للذات بحيث يحق لأي كان «اتهامهم» بكونهم شيوعيين، ولا يحق لهم أن يصرحوا هم بأنهم شيوعيون احتراماً لقواعد اللعبة. في السبعينات كان الشيوعي الجزائري يتمنى أن يخاطب رفاقه بعبارة «أيها الرفاق» كما يفعل كل شيوعيي العالم لكنه لا يفعل لأن المطلوب منه تقديم جهد يلتهمه غيره وزرع يحصده غيره. وفي سياق «الادمان» على التنازل عن الجهد بلا مقابل، سلّم الحزب العام 1977 «حركة التطوع الطلابية»، وهي أهم وأكبر وأكثر المنظمات تأثيراً في الساحة إلى جبهة التحرير.
تلك قصة الشيوعيين الجزائريين باختصار، كانوا دائماً ضحية سخية. اضطهدهم الدين مع أن قياداتهم المتوالية كانت تضم الأئمة وحفظة القرآن واضطهدهم الوطن مع أنهم قدموا الشهداء لتحريره، واضطهدهم مجتمع لئيم يُسبّح باسم الجهل.
النتيجة: تعج رفوف المكتبات الجامعية في الجزائر بأطروحات ليسانس وماجستير ودكتوراه تناولت الحزب الشيوعي الجزائري بذهنية الجزّار القاهر. أطروحات أعدها طلاب صاروا أساتذة يُكَوّنون الأجيال، بعد ما نالوا بها درجات مشرف جداً وجيد جداً في كليات التاريخ والعلوم السياسية والإعلام وغيرها، وهي لا تحمل من الأكاديمية والبحث العلمي غير الاسم ويفترض أن يكون مكانها القمامة وليس رفوف مكتبات الجامعات.