تفاعلت الصحافة ومرتادو منصات التواصل الاجتماعي في شكل مثير مع إعلان الناطق الرسمي باسم الحركة الاجتماعية الديموقراطية في الجزائر فتحي غراس ترشحة للانتخابات الرئاسية المنتظرة في نيسان/ أبريل 2019. فقد اعتبره كثيرون مجرد «أرنب سباق» مثل عشرات ترشحوا في دورات سابقة وخرجوا بلا رصيد، لأن مرشح السلطة هو دائماً الفائز في انتخابات الجزائر لكونه يمثل الحلف المقدس بين المؤسسة العسكرية والجهاز الإداري البيروقراطي المتحكم في كل شيء. وقد عززت سلطة هذا الحلف في السنوات الأخيرة قوة ثالثة لا تقل تأثيراً هي مال أثرياء جدد أفرزتهم عملية هدم القطاع العام على مدى يزيد على ثلاثة عقود. وبصرف النظر عن نية المرشح وطموحه وعن رؤية المتتبعين لمغامرته التي ستكون بالتأكيد شاقة وما إن كانت ستقوده إلى قصر الرئاسة أم تنهي مشواره عند الفشل في جمع توقيعات التأهل الأولى، فإن الأهم في الموضوع تلك القطيعة التي يمكن أن تحدثها هذه الخطوة مع مسار مليء بالألغام والخيبات والسذاجة أيضاً.فلقد كان الشيوعيون الجزائريون دائماً في ظل الآخر ولم يقدموا أنفسهم في ثوب المحرر خلال فترة الاحتلال ولا بديلاً للنظام بعد الاستقلال. وخسروا بسخاء عدداً كبيراً من المحطات التي أتاحها لهم التاريخ كي يكونوا في القيادة. ففي عام 1926، أسس عبد القادر حاج ورفاقه من أعضاء لجنة المستعمرات في الحزب الشيوعي الفرنسي «نجم شمال أفريقيا» أول تنظيم «وطني» تتوافر فيه صفات الحزب. وتمكن في ظرف قصير من حشد آلاف من العمال الجزائريين في المهجر ثم صار له اتباع من مختلف الفئات الاجتماعية في الجزائر كانوا مستعدين لتنفيذ أي خطة ضد الاضطهاد. لكن ولأن الشيوعيين وقتها سقطوا في الفهم الميكانيكي لقرارات الأممية الثالثة من دون مطابقتها مع خصوصيات الوضع الجزائري، فشلوا في ما نجح فيه نظراؤهم الفييتناميون. فانشق عنهم مصالي الحاج أحد رفاقهم بخطاب مختلف نابع من قراءة مستقلة للواقع وقدم مقاربة جديدة ترتكز على أولوية النضال الوطني المستقل. هي المقاربة الصحيحة لكنها طعمت مع الأيام أيديولوجية الحزب بالشعبوية والعبثية وكرّست معاداة الشيوعية كنهج لـ«نجم شمال أفريقيا» ثم «حزب الشعب» الذي خلفه. ولم تلغ الثورة التحريرية التي اندلعت عام 1954 ولا تخلف مصالي الحاج والأوفياء له عنها وحمل السلاح ضدها، فتعرض من انضموا إليها مبكراً من الشيوعيين إلى مضايقات دفعتهم إلى تأسيس تنظيم مسلح مستقل يحارب فرنسا في منطقة غرب البلاد باسم «مقاتلي الحرية» انضم إليه المئات، بخاصة بعد حل الحزب الشيوعي عام 1955 بقرار من سلطات الاحتلال لضلوعه في عمليات قتالية ضد الجيش الفرنسي وصار أتباعه مطاردين. وفي 1956، أثمرت مساعي قادها عبان رمضان (أحد أهم قادة الثورة قتله رفاقه في المغرب عام 1957) بعقد لقاء مع الأمين العام للحزب الشيوعي البشير حاج علي، ونائبه الصادق هجريس بمشاركة بن يوسف من قيادة جبهة التحرير الذي صار في ما بعد رئيساً للحكومة الجزائرية الموقتة، وتم الاتفاق على انضمام الشيوعيين فرادى إلى جيش التحرير. فقد قررت قيادة الحزب حل منظمة «المقاتلين من أجل الحرية» المسلحة، وأمرت أعضاءها بالعمل تحت قيادة أخرى مغايرة تماماً لتوجهاتهم من دون أي مقابل في واحدة من أكثر التصرفات سذاجة في تاريخ الحزب. وقدمت شاحنة سلاح، كان حوّل مسارها المقاتل الشيوعي هنري مايو، وكان ضابطاً في الخدمة العسكرية الاجبارية بالجيش الفرنسي، من اتجاه الثكنة العسكرية إلى جبال عين الدفلى غرب العاصمة الجزائر.
بعد الاستقلال مباشرة كان الشيوعيون القوة السياسية الوحيدة التي يمكن أن تجتمع بأسرع وقت خارج سياق المصالح لأن الباقي شتات جمعت بعضه المصالح وفرقته عن بعضه الآخر المصالح أيضاً... اجتمعوا فعلاً حول إعادة بعث جريدة «الجزائر الجمهورية». أحيوها فعلاً وصارت أهم صحيفة في البلاد للخاصة والعامة على السواء. كانت جريدة الرئيس أحمد بن بلة الأولى وجريدة أعضاء الحكومة والبرلمان وكل النخبة السياسية بمن فيهم من لا يتفقون مع فكر الحزب وجريدة كل من يحسن القراءة. ما دفع الرئيس ومحيطه إلى طلب إلحاقها بجبهة التحرير كلسان مركزي له. وهو ما يستدعي مراقبتها وتغيير خطها ليكون مناسباً للفريق الحاكم عوض أن يكون مناسباً للخدمة العمومية المستقلة القادرة على المناورة. قَبِل الحزب إعطاء الجريدة لجبهة التحرير ونشرت على صفحتها الأولى عنواناً بالخط العريض عند نهاية مؤتمر الجبهة في 1964: «الجزائر الجمهورية ستصبح اللسان المركزي لجبهة التحرير». قدمها الحزب على طبق من فضة تماماً كما فعل مع «المقاتلين من أجل الحرية» بلا مقابل. ولم تمض على «الهدية» إلا أسابيع حتى بدأت المطاردة ضد الشيوعيين ومنع نشاطهم كتنظيم بناء على اختيار نظام الحزب الواحد. ثم صدر قرار على أثر الانقلاب العسكري في جوان 1965 مشابه تماماً لقرار المنع الذي أصدرته سلطات الاحتلال عام 1955 بسبب مواقفها من القمع ضد المدنيين الجزائريين وطاردت طاقمها التحريري والإداري. ونتج من الانقلاب اعتقال الأمين العام للحزب البشير حاج علي وتعذيبه من البوليس العسكري بالطرق نفسها التي عذب بها المظليون الفرنسيون رفيقه الشهيد البطل موريس أودان خلال الثورة التحريرية. البوليس عذب البشير حتى شبه الموت كي يفشي أسرار التنظيم السري لـ«حزب الطليعة الاشتراكية» (الاسم الجديد للحزب الشيوعي المعتمد منذ كانون الثاني/ يناير 1966). والمظليون عذبوا موريس حتى الموت كي يفشي لهم أسرار التنظيم الثوري في العاصمة. كتم البشير السر وكتم موريس السر من أجل الجزائر. هما اختارا في لحظة الحسم أن يعيش أمل الحرية من دونهم على أن يعيشا هم من دون أمل ومن دون حرية.
بعد الاستقلال كان الشيوعيون القوة السياسية الوحيدة التي يمكن أن تجتمع بأسرع وقت خارج سياق المصالح


وفي بداية السبعينات لما تغيّر ميزان القوى داخل جهاز الحكم لمصلحة اتجاه التنمية والتقدم بقيادة الرئيس هواري بومدين، لعق البشير حاج علي ورفاقه جراحهم وكرروا ما فعلوه عام 1956 حين ألحقوا تنظيم «مقاتلي الحرية» المسلح بجيش التحرير الوطني خدمة للوحدة وانتصاراً للثورة. هذه المرة أيضاً وضعوا خبرتهم وشبكتهم التنظيمية في خدمة تحقيق أهداف التنمية بقيادة غيرهم وصار أهم «قوة اقتراح» ضمن نهج «المساندة النقدية» في نكران تام للذات بحيث يحق لأي كان «اتهامهم» بكونهم شيوعيين، ولا يحق لهم أن يصرحوا هم بأنهم شيوعيون احتراماً لقواعد اللعبة. في السبعينات كان الشيوعي الجزائري يتمنى أن يخاطب رفاقه بعبارة «أيها الرفاق» كما يفعل كل شيوعيي العالم لكنه لا يفعل لأن المطلوب منه تقديم جهد يلتهمه غيره وزرع يحصده غيره. وفي سياق «الادمان» على التنازل عن الجهد بلا مقابل، سلّم الحزب العام 1977 «حركة التطوع الطلابية»، وهي أهم وأكبر وأكثر المنظمات تأثيراً في الساحة إلى جبهة التحرير.
تلك قصة الشيوعيين الجزائريين باختصار، كانوا دائماً ضحية سخية. اضطهدهم الدين مع أن قياداتهم المتوالية كانت تضم الأئمة وحفظة القرآن واضطهدهم الوطن مع أنهم قدموا الشهداء لتحريره، واضطهدهم مجتمع لئيم يُسبّح باسم الجهل.
النتيجة: تعج رفوف المكتبات الجامعية في الجزائر بأطروحات ليسانس وماجستير ودكتوراه تناولت الحزب الشيوعي الجزائري بذهنية الجزّار القاهر. أطروحات أعدها طلاب صاروا أساتذة يُكَوّنون الأجيال، بعد ما نالوا بها درجات مشرف جداً وجيد جداً في كليات التاريخ والعلوم السياسية والإعلام وغيرها، وهي لا تحمل من الأكاديمية والبحث العلمي غير الاسم ويفترض أن يكون مكانها القمامة وليس رفوف مكتبات الجامعات.