تونس | من ظلال الحرب المعلنة بين نجل رئيس الجمهوريّة حافظ قائد السبسي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، أطلّ نبيل القروي، وهو مالك «قناة نسمة» التلفزيونيّة، لينخرط في الصراع، مُعلناً حرباً صريحة ضدّ الشاهد الذي يتحرّك على أرض رخوة وهو يتحسّس كرسيّ القصبة (كرسي رئاسة الحكومة) من تحته. هذا الوجه الإعلاميّ ومالك إحدى أوائل القنوات الخاصّة في تونس منذ سنة 2007، لا يبدو غريباً عن جوّ حروب الإعلام بعدما أتقن خلال السنوات الماضية استخدام قناته لتحسين تموقعه في المشهد السياسيّ.«نسمة» في خدمة

طموحات القروي السياسيّة
مثّل انهيار منظومة الرقابة الإعلاميّة ونظام البوق الواحد والصوت الأوحد عقب «جانفي 2011»، المنعرج المفصليّ في تحديد أهميّة دور الإعلام وتأثيره في المشهد السياسيّ. تغييرٌ التقطه القروي مبكّراً وأحسن استغلاله منذ أن بدأت دوّامة العنف نهاية سنة 2012، التي بلغت أوجها باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي تباعاً في شباط/ فيفري وتموز/ جويلية 2013. فقناة نسمة «الترفيهيّة» بالأساس، تحوّلت بعد سقوط نظام بن عليّ إلى أحد أهمّ المنابر السياسيّة المعارضة بعد صعود «حركة النهضة» الإسلاميّة إلى الحكم. موقع مكّن القروي من توطيد علاقته بالرئيس الحاليّ الباجي قائد السبسي الذي قدّم نفسه حينها ربّان «سفينة نوح» السياسيّة، لتؤدي القناة دوراً حاسماً في الدعاية الانتخابيّة لحزب «نداء تونس» والظفر بالانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة سنة 2014.
على أساس قاعدة المصالح الشخصيّة والطموحات الذاتيّة، واصل القروي توظيف قناته لخوض صراع تثبيت نفوذه داخل حزب «نداء تونس»، خصوصاً بعد إلحاقه بالهيئة التأسيسيّة للحزب في آذار/ مارس 2015. هذه الخطوة جعلت طموحات الرجل تتعاظم داخل «نداء تونس» الذي كان قد بدأ مرحلة جديدة من معارك الأجنحة بين معسكر نجل الرئيس ومعسكر محسن مرزوق. فرصة أخرى أحسن اغتنامها القروي ليصطفّ إلى جانب حافظ قائد السبسي، وليُسخّر قناته وطاقمه الإعلاميّ في حرب كسر العظام بين مرزوق والسبسي الابن، انتهت بحسم الصراع نهائياً لمصلحة هذا الأخير وتعزيز نفوذه المطلق على الحزب عقب مؤتمر سوسة في 9 و10 كانون الثاني/جانفي 2016. الدور الذي لعبته القناة حينها ومن ورائها نبيل القروي، لم يمرّ من دون مكافأة ليرتقي «صاحب القناة» مجدّداً داخل الحزب وينال عضويّة الهيئة السياسيّة في التاريخ نفسه.
أتقن خلال السنوات الماضية استخدام قناته لتحسين تموقعه السياسي


لم يطل الوقت ليبدأ التحالف بين الرجلين في التبدّد شيئاً فشيئاً. فحافظ قائد السبسي الذي أتمّ سيطرته على الحزب، لم يعد يستسيغ تعاظم طموحات القروي، لتبلغ الأزمة بينهما أشدّها مع تقديم مالك قناة نسمة استقالته النهائيّة من الحزب في 5 نيسان/ أفريل 2017، متعللاً في بيان الاستقالة بأنّ مسار «النداء» صار يتعارض مع قناعاته ورؤيته، إضافة إلى «الطابع الاستبدادي» لنجل الرئيس في تسيير الحزب. خروج لم يقطع شعرة معاوية بين الرجلين، إذ نأى نبيل القروي على غير عادته بقناته عن الهجوم على حافظ قائد السبسي، محافظاً على غطاء حزبيّ يحمي مصالحه الماليّة وارتباطاته السياسيّة.
ابتعاد القروي عن حزبه السابق، لم يمنعه من خوض معارك بالوكالة، لعلّ أهمّها مواجهته الأخيرة مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري بعد قرارهما معاقبة قناة نسمة بغرامة ماليّة ناهزت 3 آلاف دولار تقريباً، نظراً لخرقها قواعد الحملات الدعائيّة خلال الانتخابات البلديّة الأخيرة لمصلحة «نداء تونس». عقوبة ردّ عليها القروي بإعلان مقاطعة قناته لتغطية الانتخابات وشنّ حملة إعلاميّة ضخمة على الهيئتين الدستوريتين.

... في معركة فتيان الرئيس
لم يكن يوسف الشاهد مصدر قلق لنبيل القروي منذ تنصيبه رئيساً للحكومة في 3 آب/ أوت 2016. فرجل القصبة الجديد كان أحد مهندسي تعزيز موقع حافظ قائد السبسي داخل «نداء تونس» و«رفيق» القروي في معسكر نجل رئيس الجمهوريّة، كذلك إنّ ماضيه السياسيّ الخاوي تقريباً، جعله في مأمن من الشكوك.
وضعٌ لن يطول مع إعلان يوسف الشاهد في أواخر شهر أيار/ ماي من السنة الماضية ما سُمِّي حينها الحرب الحكوميّة على الفساد، التي طاولت عدداً من مموّلي الحزب ووجوهه المعروفة على غرار رجل الأعمال شفيق جرّاية. حملة قُوبلت بالفتور من «نداء تونس» ومديره التنفيذيّ حافظ قائد السبسي، وأثارت قلق نبيل القروي الذي بدأ يتحسّس رأسه، وهو الذي بدأت تلاحقه تهم الفساد والتسريبات المتتالية.
هذا المشهد جعل القروي يحاول عكس الهجوم ضدّ «منظمة أنا يقظ» التي نشرت تحقيقات تتعلّق بفساد الأخوين القروي وشركتهما وقناة نسمة بتهم تتمحور حول التهرّب الضريبيّ وغسل الأموال. ردّ فعل نبيل القروي تجاوز جميع الخطوط الحمراء ليصل إلى حدّ التلصّص على الحياة الشخصيّة لأعضاء «منظمة أنا يقظ» وفبركة حملات تشويهيّة ضدّهم. هذه التجاوزات التي أثارت غضب المجتمع المدني في تونس ونقابة الصحافيين وعدداً من السياسيّين أضعفت موقف مالك قناة نسمة الذي لم يجد بدّاً من الاصطفاف مجدّداً إلى جانب حليفه القديم (نجل الرئيس) وغطائه الحزبيّ السابق (نداء تونس).
مع احتدام الخلافات بين رجُلي الرئيس (حافظ قائد السبسي ويوسف الشاهد)، وتقاطع مصالح حافظ قائد السبسي ونبيل القروي في إقصاء الطامح الجديد في المشهد السياسي، أي يوسف الشاهد، بدأت قناة نسمة تعدّل خطّها التحريريّ ضدّ الحكومة. موقف تجلّى بوضوح خلال الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد في كانون الثاني/ جانفي الماضي، وترسّخت بصفة لا لُبس فيها خلال الحملة الإعلاميّة الأخيرة التي انحازت صراحة إلى مطلب السبسي الابن بإقالة رئيس الحكومة عقب فشل نقاشات اتفاق «قرطاج 2».
اصطفاف نبيل القروي الذي قطع طريق العودة ظاهرياً مع الحكومة الحاليّة، يبدو مفهوماً في سياق تهديدات يوسف الشاهد المتواصلة بأنّ الحرب على الفساد لن تتوقّف، في إشارة إلى توسيع قائمة المستهدفين، وتسريبات إعلاميّة متتاليّة تضع نبيل القروي على رأس هذه القائمة.
لكن، في نهاية المطاف، فإنّ قناة نسمة ليست حالة معزولة أو شاذّة، إذ لا تختلف عن نظيراتها من القنوات الخاصة الأخرى في كونها أحد أسلحة الكارتيلات السياسيّة التي تشكّل المشهد العام في الساحة السياسيّة، والتي تتحرّك ضمن منظومة قائمة على متلازمة الثروة والسلطة والفساد. أما نبيل القروي، فهو يحاول كغيره من ملّاك سلاح الإعلام الدفاع عن مصالحه المتشابكة في «حروب القطط السمان» التي تنتهي دائماً بسقوط رؤوس استُنفدت أدوارها مقابل ظهور أسماء جديدة صارت جاهزة لاحتلال مواقعها.