تونس | على رغم توافر الأسباب الموضوعية لإقالة وزير الداخلية لطفي براهم، فإنّها تبقى ثانوية في عملية إبعاد هذا الرجل القريب من خصم الشاهد، حافظ قائد السبسي، فيما لم يكن خافياً على أحد أنّه متمرّد على رئيس حكومته ولا يلتزم بتعليماته وقراراته. الرواية الرسمية تُرجع إقالة براهم أساساً الى حادثة غرق مركب الهجرة قرب قرقنة، إذ اعتبر الشاهد أنّها تأتي نتيجة تقصير أمني بالأساس. وقبل تلك الحادثة بأيام، سرّبت رئاسة الحكومة معلومة من دون مصدر تُفيد بأنّ الشاهد أمهل لطفي براهم 48 ساعة لإلقاء القبض على وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلّي، المتهم في قضيّة «تآمر على أمن الدولة» منذ نحو سنة.بهذا المعنى، فإنّ قرار إقالة آمر الحرس الوطني السابق، تمّ اتخاذه قبل أيام من إعلانه، وجرى التمهيد الإعلامي له لتأتي حادثة غرق مركب المهاجرين التونسيّين بمثابة «هديّة» تعطي غطاءً موضوعياً لقرار تنحية أحد رجالات حافظ قائد السبسي في الحكومة. ويمثّل إبعاد الرجل الممسك بأهم وزارة سيادية في تونس ضربة ثانية من يوسف الشاهد لحافظ قائد السبسي في إطار حرب مفتوحة بينهما، كان قد بدأها نجل الرئيس حين تشبّث بإقالة الشاهد خلال نقاشات وثيقة «قرطاج 2» شأنه في ذلك شأن أغلب المشاركين في النقاشات، في مقابل تمسّك «حركة النهضة» ببقاء رئيس الحكومة الذي كان يعدُّ قبل هذه الحرب المفتوحة أحد كوادر «نداء تونس».
ولكن بتعليق قائد السبسي الأب لوثيقة «قرطاج 2» في نهاية الشهر الماضي، وتواصل النقاشات بخصوص ما يُعرف في تونس بالنقطة 64 من الوثيقة التي تحدّد بقاء الشاهد من عدمه على رأس الحكومة، التقط الأخير أنفاسه ووجد فرصةً لإنقاذ رأسه إثر التوقّف الكلي لاجتماعات قصر قرطاج، عاكساً الهجوم نحو المدير التنفيذي لـ«نداء تونس» ونجل «وليّ نعمته» الرئيس الباجي قائد السبسي الذي كان قد دفع به إلى رئاسة الحكومة في صيف 2016.
قبل إقالة وزير الداخلية، يُرجّح أنّ لقاءً سرياً جمع الغنوشي والشاهد


مثّل تعليق نقاشات قرطاج من طرف الباجي قائد السبسي ذاته، دعماً غير مباشر ليوسف الشاهد، مكّنه من مواصلة إمساكه بزمام «القصر الحكومي» وتوجيه ضربة قويّة لنجله حافظ المتمسّك بإسقاطه بأي ثمن. ومن الممكن أن يكون دعم الرئيس غير المباشر للشاهد قد أتى من باب الاضطرار وبغية التأكيد أنّ مسؤولية ومنطق الدولة هو الذي يُحكِّمه في إدارة الشؤون السياسية للبلاد بعيداً عن منطق الحسابات العائليّة كما يُروّج في تونس.
ويبدو أن يوسف الشاهد قد استغلّ تلك الإشارة، أو اضطرار رئيس الجمهورية لدعمه بصفة غير مباشرة في الحرب بينه وبين ابنه، ليوجّه ضربة لخصمه، حيث فاجأ الجميع بعد تعليق نقاشات «قرطاج 2» بيومين بخطاب بُثّ عبر القناة الرسمية هاجم فيه صراحة حافظ قائد السبسي واتهمه بتخريب «نداء تونس» وبأنّه تسبّب بالهزائم الانتخابية الأخيرة (من الانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة ألمانيا في نهاية 2017، وصولاً إلى الانتخابات البلديّة التي أجريت قبل شهر).
أما إقالة وزير الداخلية، فكانت الضربة الثانية في إطار الحرب المفتوحة بين حافظ قائد السبسي ويوسف الشاهد، وهي إقالة يستحيل أن يكون الشاهد قد اتخذها من دون موافقة الباجي قائد السبسي، أو على الأقل من دون إعطائه الضوء الأخضر للشاهد مع تأكيده له على تحمّله لمسؤولية قراره، وهذا أيضاً ما يُفسّر بأنهّ دعم غير مباشر من قبل قائد السبسي الأب للشاهد في تلك الحرب. جدير بالذكر أنّ للشاهد دعماً أكيداً من قبل «النهضة» ومباركةً من رئيسها راشد الغنوشي، لإزاحة وزير الداخلية. ويُرجّح أنّ لقاءً سرياً جمع الغنوشي والشاهد، في وقت تذهب بعض التأويلات إلى القول إنّ «تنحية لطفي براهم بمثابة هديّة من الشاهد لداعمه الوحيد حالياً»، في إشارة إلى «النهضة».
لكن يبقى ذلك التأويل ضعيف الحجة، خصوصاً أنّ دعم «النهضة» يُعدُّ عاملاً غيرّ محدّد بصفة كلية في حرب الشاهد وحافظ قائد السبسي مقارنةً بموقف الرئيس قائد السبسي، الذي مثّلت موافقته على تنحية الوزير المقرّب من نجله تأكيداً لتأييد ساكن قصر قرطاج لصاحب قصر القصبة الحكومي في معركته مع ابنه، وليكون الشاهد بذلك الرابح إلى حدود الساعة والمتمكّن من فرض إجراء تعديل وزاري جزئي بعيداً عن تغيير كل الحكومة وذهابه، كما يُطالب حافظ السبسي. إذ من غير الممكن الإبقاء على وزارة سيادية كوزارة الداخلية من دون وزير في ظلّ التهديدات الإرهابية وحلول الموسم السياحي، والمرجّح أن يستغلّ الشاهد اضطرار سدّ ذلك الشغور لإجراء تعديل وزاري جزئي يدفن معه مساعي حافظ السبسي للإطاحة به عبر «التعديل الشامل».