تونس في نهاية عام 2013. أتجه إلى وسط العاصمة حيث مقرّ «الحزب الجمهوري» في «ستديو 38» للقاء مية الجريبي. لقاء سيكون الأول بها، بعدما تعرفتُ إليها سابقاً عبر مراسلات سريعة وإجراء مقابلة صحافية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.في نهاية ذلك العام، كانت تونس تُشرف على انتهاء أزمة كادت أن تعصف بتجربة الانتقال الديموقراطي إثر اغتيال المناضلين شكري بلعيد (شباط/ فيفري 2013)، ومحمد البراهمي (تموز/ جويلية 2013)، في ظلّ حكم «الترويكا» بقيادة «حركة النهضة».
يمرّ الحديث سريعاً عن تونس، قبل أن تنتقل مية، بشغف، إلى بيروت، للسؤال عنها وعن أحوالها. في بلاد المغرب العربي، يبقى المشرق ركيزةً، مهما تبدّلت الأحوال، وتبقى المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لدى مية، ولدى كثر غيرها، بوصلة: في الطريق إلى لقائها، يكرر صديق (سابق) النصيحة ممازحاً بعدم الحديث النقدي عن «السيّد نصرالله... حاجة كبيرة ليها».
أذكرُ أنّها سألت عن سوريا أيضاً... بأيّ حال، تغيّرت الدنيا يا مية. في هذا الشرق المسكون، يُقال «إننا نبيع سوريا في أسواق المحاور»، هل هذا صحيح؟ لا جرأة على الإجابة، لكن ما أعرفُه أنّه كيفما قُلّبتَ زوايا «المقاربة السورية» في تونس، فقلّما تكون مقاربةً سياسيةً تهدف إلى «الربح»، اللهم باستثناء بعض أعمال «الإخوان» هناك بين 2011 و2013، ومحاولات الرئيس السابق المنصف المرزوقي الاستثمار في مؤتمر يتيم لـ«أصدقاء سوريا».
لمن لا يعرف مية الجريبي التي رحلت عنّا أول من أمس عن 58 عاماً، فهي من القلائل الذين «قاسوا كل الطرقات» في زمن زين العابدين بن علي، ليصنعوا ظلاً ديموقراطياً لتونس. صورتها شهيرة في كانون الثاني/ جانفي 2011، مرفوعةً على الأكتاف أمام مبنى وزارة الداخلية، مطالبةً برحيل بن علي. كانت حاضرةً لتقود جموعاً في لحظة تاريخية كتلك.
بدأت مسيرتها في نهاية السبعينات ضمن «الاتحاد العام لطلبة تونس» وفي «رابطة حقوق الإنسان ـــ صفاقس»، وبعدها ستترك الفتاة المولودة لأم جزائرية الجامعة لفترة، وتشتغل عاملةً في أحد المصانع. فعلت ذلك «في إطار تأصيل تجربتها اليسارية لأنّها كانت تعتقد بعجزها عن الدفاع عن قضية عن بعد، ومن دون أن تعيش يومياتها»، كما يشرح أحد المقرّبين منها.
في السياسة، كانت من مؤسسي «التجمع الاشتراكي التقدمي» الذي سيتحوّل إلى «الحزب الديموقراطي التقدّمي» (معقل المعارضة ضد بن علي)، وهي ستصبح أول امرأة أمينة عامة لحزب سياسي في تونس، عام 2006. هذا الحزب سيتحوّل إلى «الحزب الجمهوري» بعد عام 2011، وستكون فيه أيضاً برفقة شيخ السياسيين المعارضين زمن بن علي، نجيب الشابي، وأخيه، عصام، والمنجي اللوز، وغيرهم.
بعد انتخابات 2014، والخسارة المرّة، سوف يعرف هذا الحزب انقسامات، لتبقى مية إلى جانب عصام والمنجى اللوز في «الجمهوري»، بينما سيغادرهم «سي نجيب» الذي على رغم ذلك، سوف يبقى محتفظاً لمية الجريبي بمكانة لا يُنافسها عليها أحد، وللتذكير هما كانا قد دخلا في إضراب مشترك عن الطعام في 2007.
هذان السياسيان، من طينة لا نعرفها كثيراً. لأنّهما كذلك، ولأنّهما من أولئك «الذين يدفعون الثمن باكراً، لأنّهم كانوا على حق باكراً»، ظلمهما «شارعهما» قبل أي أحد آخر، هذا فضلاً عن خذلان بعض من «الأقربين».
لمية تجربتها الصحافية أيضاً، سواء في «مجلة الرأي» أو في «جريدة الموقف» التي كان يُصدرها «الحزب الديموقراطي التقدّمي»، كما أنّها كانت من مؤسسي «جمعية المرأة التونسية للبحوث َوالتنمية»، ومن مؤسسي «هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات» 2005.
في عهد بن علي، كانت مية الجريبي تقود جميع التحركات والتظاهرات للتضامن مع فلسطين. وهي تحركات كانت تتعرض لقمع بوليسي شديد، وفي بعض الأحيان كان التحرك لا يتجاوز الشارع الذي يقع فيه مقرّ «جريدة الموقف» و«الحزب الديموقراطي التقدمي».
في شتاء 2009، كانت على رأس مجموعة من النساء والأطفال للتظاهر ضد العدوان على غزة أمام مقر بعثة الأمم المتحدة، لكن الحشد الأمني أغلق جميع الطرق المؤدية إلى مكان التجمع وأوقف حركة السير وخط الترامواي (المترو) في محيطه، مانعاً المجموعة الصغيرة من الوصول إلى المقرّ. كما كانت، وحزبها، على رأس مبادرات التضامن مع العراق (زمن الحصار ووقت الغزو)، ومع لبنان 2006 (جمع الأدوية والمواد الإغاثية، رغماً عن بن علي ونظامه!).
لم يتعرّف إليكِ هذا الشرق المسكون يا مية يوم سقطتِ في استحقاق 2014 التشريعي؛ كان صحافيوه مشغولين بزاوية «سقوط إخوان تونس».
في تلك المدة، بدأ المرض هجومه الخبيث، وبدأت مية الجريبي في الابتعاد نسبياً عن المشهد العام. بعد عام، سأفتقدها على مستوى شخصي في مناسبة خاصة، لكنني سأفتقد أيضاً الجرأة اللازمة لزيارتها، لمرّة ثانية. هالتُها كبيرة، وقد اعتدتُ منذ سنوات على رسم أيقونتها في المخيلة.
بعد عام 2011، ودخولها برفقة نجيب الشابي إلى «المجلس التأسيسي»، أصبحت عضواً في «اللجنة التأسيسية للتوطئة والمبادئ العامة للدستور». كانت أول من أعلن قبوله بنتائج انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 التي فازت بها «حركة النهضة»، ووقوفها و«الحزب الديموقراطي التقدمي» في حينه، بصف المعارضة. كانت «النهضة» بالنسبة لها خصماً سياسياً قبل الانتخابات، ثم أصبحت وحزبها بمثابة رأس حربة المعارضة ضدّ «النهضة» و«الترويكا»، وذلك منذ أولى جلسات المجلس التأسيسي، حين أعلنت ترشحها لرئاسة المجلس على رغم معرفتها أنّ النتائج محسومة سلفاً ضمن ثلاثي «الترويكا» وبهندسة «نهضوية». لكن ترشحها كان بمثابة الموقف وتأكيداً على أنّ ما ناضلت من أجله قبل الثورة يبقى هو بوصلتها بعدها. في حينه قالت: «زمن الرأي الواحد، زمن الترشح الواحد، زمن الالتفاف... قد ولى، وانتهى دون رجعة». ثابرت وناضلت في قلب المشهد السياسي الجديد، إلى أيام «اعتصام باردو» الذي أطاح بحكومة «النهضة» بقيادة علي العريّض، وذلك بعد اغتيال بلعيد والبراهمي.
قبل استقالة حكومة العريّض بأسابيع، قالت في مقابلة أجريتُها معها، إنّ «الأزمة في تونس مصيرية، فإما أن تُحل في الاتجاه الصحيح وتمضي تونس نحو إرساء الديموقراطية ودولة القانون... و إما لا قدر الله نفشل في إيجاد التوافق الضروري، فتعرف تونس سنوات من الليل الظليم لا يعرف إلا الله مداه». على رغم أنّ الأزمة حُلّت، لكن تونس في ما بعد ستدخل في عهد توافقات «الشيخين» (راشد الغنوشي، والباجي قائد السبسي)، وستكون البلاد على صورة مية منذ هاجمها المرض: تنسحب تدريجاً من نفسها، فيما يتربّص بها «الخبيث»، ومن هم على أشكاله.
تماماً قبل عام من اليوم، كنّا أربعةً إلى جانب المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة، حين مرّت سيارة أجرة، فيها امرأة تجلس إلى جانب السائق، مبتسمةً، وقد ظهرا يتحادثان، ولا شكّ أنّ «التاكسيست» كان فرحاً. بدت بكل تواضعها. هتفت واحدة من الواقفين «إنّها مية»، صمتت أخرى، بينما دعا ثالثنا بالشفاء، وقد كان آخر لقاء... في الشارع الذي قاست كل دروبه لتصنع لنا ظلاً.
قالوا إنّكِ كنتِ تحبين قصيدة آدم فتحي «يا ولدي»، بصوت الشيخ إمام، فهي لكِ، بصوتنا، هديةً أخيرة:
«يا ولدي
‎لاَ تَبْكِ فأحزانُ الصِغرِ
تَمْضِي كالحُلمِ مع الفَجرِ
وقريباً تَكْبُرُ يا وَلَدِي
وتُرِيدُ الدَمْعَ فلا يَجْرِي
(...) وإذا ما الدهْرُ بنا دَارَ
ومَضَيْتُ إلى حَيْثُ أُوارَى
أَكْمِلْ مِنْ بَعْدِي المِشْوَارَ
لا تُخْلِفْ مِيعادَ الفَجْر...»