طبعاً لم يكن صديقي، صاحب الكلمات أعلاه، من الرافضين للانتخابات والديموقراطية، لكن المحطات الانتخابية التي شهدتها تونس بعد الثورة وما أفرزته من حكّام لا علاقة لهم بمصالح التونسيين، جعلته يتوجس من أي اقتراع قد يزيد من المعاناة. في نفس الوقت، ليس له بديل آخر غير «اختيار الشعب»، فأصبح ينظر إلى الديموقراطية التونسية من منظار الانتقاد والتشكيك، بعدما كان يناضل من أجلها لسنوات، ولا ألومه في ذلك.أصبح الشارع التونسي هذه الأيام مسرحاً للحملات الانتخابية في جميع المحافظات، وتصدّر موضوع الانتخابات البلدية (المرتقبة بعد غد الأحد) اهتمام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية وحتى منصات التواصل الاجتماعي. رايات الأحزاب والقائمات المستقلة تحتل واجهات المباني والأرصفة وأعمدة الكهرباء وحتى الأشجار، والمترشحون يجوبون البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وهو أمر معتاد. لا أحد ينكر أنّ الحملة الانتخابية أدخلت حيوية كبيرة للشارع التونسي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتى الترفيهي، فعدد كبير من المترشحين يخوضون حملات مثيرة للضحك والسخرية والشفقة في نفس الوقت.
ورغم أنّ صديقي لم يكن متحمساً لهذه الانتخابات البلدية مثلما كان متحمساً للانتخابات السابقة، إلا أنه حدثني أمس، والسعادة تتطاير من عينيه، عن أحد المترشحين من رجال الأعمال: لقد رأيته يا صاحِ، رأيتُ رجل أعمالٍ بارز ومهيب الركن في تونس، رأيتُه بعيني يجثو على ركبتيه ماسكاً يد عجوز فقيرة، يرتدي لباساً عادياً، من دون ساعة «الرولاكس»، والأغبرة تكسو حذاءه!!
استغربتُ حماسته الشديدة لهذا المشهد، فهذا ما اعتدنا رؤيته في كل الحملات الانتخابية، وهذا ما يقوم به المترشحون، سواء كانوا رجال أعمال أو موظفين أو عاطلين من العمل. سألتُه عن سبب سعادته وغبطته لمجرد مشهد بهذه البساطة والرتابة!! «أيّها الأحمق، لماذا تأخذ الأمور بهذه البساطة، وكأنك لا تعلم أنّ نفس ذلك الثري هو من يمرّ بسيارته المرسيديس الداكنة البلور بسرعة قصوى ولا يتنقل إلا بين مباني شركاته وقصره الفخم في أحد الأحياء الراقية في ضاحية تونس الشمالية؟ هل كنتَ ستصدق لو قال لك أحدهم إنّه يلبس مثلنا ويجثو على ركبتيه ماسكاً بيد عجوز معدمة يستجدي ويتوسل صوتها؟!». إنّها سيادة الشعب يا صاحبي في أبرز تجلياتها وأبسطها في الوقت نفسه. فمن قال إنّ ذلك الذي تبذل الدولة كل جهودها لخدمته وتسهيل أعماله وتصدّق على التشريعات لتشجيع استثماراته وتصدر عفواً على المليارات من ديونه المستحقة لدى البنوك وتغضّ الطرف عن الصفقات الفاسدة التي يظفر بها، سيركع أمام عجوز معدمة فقط من أجل صوتها؟ إنّها سيادة الشعب!!
ضغط هؤلاء للتعويض بمليارات على أصحاب الفندق عقب العملية الإرهابية


واصل صديقي بحماسته وسعادته نفسيهما: «أعلم أنه سيعود إلى داره الفخمة ومكتبه الوثير المصنوع بخشب «البلنز»، وسيستحم لإزالة ما علق به من الشعب، وسيرتدي بذلته وساعة «الرولاكس» وسيدخن سيجاره الكوبي، وسيخدم أصدقاءه رجال الأعمال، في حال فوزه في الانتخابات، وسيمنحهم الصفقات والمشاريع، ولن يتذكر تلك العجوز إلا في الاستحقاق الانتخابي القادم، لكنني أشكر الله، إذ رأيته في ذلك المشهد النادر. ليت هذا الشعب يدرك حقيقة ما يملك، يدرك حقيقة السيادة التي يمارسها هؤلاء الأنذال باسمه، لو أدرك ذلك فعلاً، لمنحها لمن يستحقها فعلاً».
لماذا تحمل كل هذا الحقد على رجال الأعمال؟ ألا يمكن أن يوجد رجال أعمال يمارسون السياسة بنبل ووطنية؟! أجبت صديقي وأنا أعلم إجابته المسبقة، فقد كنتُ حريصاً دوماً على استفزازه، لاعباً دور محامي الشيطان لدفعه إلى إخراج كل ما في جعبته، وكان بدوره سهل الاستفزاز خاصة بعد «جعته» الثامنة.
«صدقني لا أحقد عليهم، وإن كنت من حيث المبدأ أرفض الخليط المتفجر بين المال والسياسة، لكن ألا تذكر رجل الأعمال رئيس الجمعية الرياضية الشهيرة الذي أصبح نائباً وسجل نسبة صفر بالمئة حضوراً في أشغال البرلمان؟ ألا تذكر كيف ضغط رجال الأعمال على الحكومة من أجل دفع مليارات كتعويض لأصحاب النزل (الفندق) عقب العملية الإرهابية، فيما ترفض هذه الحكومة نفسها معالجة أوضاع الفقراء وتنمية الجهات النائية التي تشتعل فيها الأرض فقراً وقهراً وظلماً؟!»
لم يخلُ كلامه من الوجاهة، لكنه كان كلام ذلك الشاب اليساري المثالي الحالم: ما إن يصطدم بحقيقة الواقع حتى يستفيق من غيبوبته. لقد قضى الأيام الماضية في شوارع تونس متجولاً بين احتفاليات الأحزاب والمستقلين، ساخراً من الوعود الانتخابية التي يطلقها المترشحون، أذكر أنه حدثني عن حوار بينه وبين مترشح عن حزب سياسي كبير حين سأله عن صلاحيات المجلس البلدي الذي ترشح لرئاسته؟ تلعثم ذلك المرشح قبل أن يحدّثه عن صلاحيات المجلس البلدي وفق قانون الجماعات المحلية القديم (قانون 1975)، ويبدو أنه لم يطلع بعد على قانون الجماعات المحلية الذي صُدِّق عليه قبل أيام وسط تهليل الحاضرين وتصفيقهم. أدرك صديقي أنه بدأ يفقد الأمل شيئاً فشيئاً، وأنّ الانتخابات في هذه الظروف لن تكون سوى لعنة أخرى مع قليل من الشرعية. حينها، اتجه نحو حانته المعهودة والتساؤلات تتزاحم في رأسه: لماذا ينتخب الشعب من لا يحترمه؟ هل بهذه البساطة يمنحون أصواتهم وإرادتهم وسيادتهم؟ هل حقاً سينتخبون من لا يعرف صلاحيات المجلس البلدي الذي سيكون هذا الشخص رئيسه يوماً؟ هل سينتخبون رجل الأعمال الذي لم يمتطِ يوماً حافلة أو مترو، وربما كان يملك طائرة خاصة وسيارة ثمنها مئات الملايين؟ أجل سيفعلون ذلك، فقد فعلوها من قبل. ليتهم يعلمون أنّ أصواتهم هي السيادة... السيادة المهدورة إلى حين...