لم يعد الخطر على الجزائر من الحدود الشرقية التي دخلت منها جماعة إرهابية مطلع عام 2013 ونفذت أكبر عملية احتجاز للرهائن في تاريخ البلاد في محطة الغاز في عين امناس بقلب الصحراء. ولم يعد أيضاً من الحدود الغربية المغلقة منذ قرابة ربع قرن بفعل توترات دائمة مع المغرب. بل لم يعد الخطر القادم حتى من البحر المتوسط، منبع الأخطار القديمة على مدى ما يقارب ثلاثة آلاف عام، ومنه دخل الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون والإسبان والعثمانيون والفرنسيون، وبقوا في البلاد قروناً، تركوا فيها كلهم ندوباً وبصمات واضحة. الخطر كل الخطر الذي يهدد البلد في المستقبل مصدره الجنوب... تلك الصحراء الواسعة التي تحمل ثروات لا تُحصى وهموماً لا تُعد. الخطر الأكبر هو الغضب الذي ينتشر ويكبر كل يوم ككرة الثلج وتتوارثه أجيال اختارت يوماً أن تكون ضمن الجزائر الكبيرة، وهي اليوم تتساءل أحياناً عن مدى صحة اختيار الأسلاف وتُعبِّر عن الحسرة واليأس في أحايين أخرى.في السابع عشر من آذار/مارس الماضي، استعرض الطوارق، وهم غالبية سكان الجنوب، قوتهم خلال اجتماع حاشد عقده أعيانهم في عاصمتهم، مدينة تمنراست الواقعة أقصى جنوب البلاد. الاجتماع ضمّ مئات من أهم قيادات القبائل وممثليهم في الهيئات الرسمية، ودرس الوضع العام في المنطقة وسجل استياء وسخط السكان من الظروف التي يعيشها مجتمعهم جراء ما سموه «التهميش والحرمان وكسر القيم النبيلة المتوارثة عبر الأجيال». ناقوس الخطر رنّ في الحقيقة من سنين، لكن الطبقة السياسة، إنْ كانت سلطة أو معارضة، تجاهلت الموضوع تماماً، ربما لأنّ ما يجري بعيد عن العاصمة، عصب الخوف ومصدر القرار.
فلقد كانت مدينة عين صالح المنتسبة إلى ذات الولاية قبل ثلاث سنوات مسرحاً لتظاهرات عارمة تخللتها أحداث عنف بين السكان وقوى الأمن على خلفية تنفيذ الحكومة قرارها القاضي بانطلاق عمليات استغلال الغاز الصخري. واعتصم السكان كبارهم وصغارهم ذكورهم وإناثهم لأسابيع، في ساحة المدينة، وجابوا شوارعها احتجاجاً، ثم صعّدوا المواجهة بأن أغلقوا كل المرافق الحكومية في المدينة ومنعوا «الغرباء» من دخولها، والمقصود بهم قوى الأمن بالأساس. بعدها كبرت الحركة الاحتجاجية، وتوسعت إلى أن وصلت إلى مدينة ورقلة عاصمة أغنى ولاية في البلاد وأفقرها في الوقت نفسه، فشهدت تظاهرة في الرابع عشر آذار 2015 لا تضاهيها إلا تظاهرة نُظمت في 27 شباط/ فبراير 1962 في أوج المفاوضات العسيرة مع إدارة الاحتلال الفرنسي لوضع حد لحرب طاحنة زاد عمرها على سبع سنوات. كانت تلك التظاهرة تعبيراً عن ولاء سكان الجنوب للثورة ودعم المفاوضين الجزائريين وكسر مناورات الجنرال شارل ديغول وحكومته الرامية إلى فصل الصحراء عن باقي الجزائر وإعلانها جمهورية مستقلة برعاية فرنسية. ولئن بدا اجتماع الطوارق «عصياناً» لأنّه أدان السياسات الحكومية تجاه الجنوبيين، ووصفها بالتمييزية والعنصرية، وعدّ القادمين من الشمال محتلين، فإنّه في ذات الوقت طوق نجاة لأنّه دقّ ناقوس الخطر ونبّه الجميع إلى ضرورة تغيير سياسات فاشلة طال أمدها، حتى بدات كما لو أنها ممنهجة لاضطهاد جماعة سكانية بعينها.
يدرك الجميع أنّ الواجهة الجنوبية هي الأخطر أمنياً على سلامة كل الجزائر


فعلاً ورقلة هي أغنى محافظة بمساحة تزيد على 212 ألف كيلومتر مربع، في مقابل عدد سكان لا يتعدى 640 ألف نسمة، ومعظم الثروة البترولية تستخرج منها، وهي التي توفر خيراتها حاجات لنحو 45 مليون جزائري. لكنّها الأفقر، لأنّها سجّلت أعلى نسبة بطالة بين سكانها عموماً وشبابها خصوصاً، نسبة عالية منهم تخرجوا من جامعة المدينة بشهادات عليا. ويعتقد سكان المحافظات الصحراوية أنّ ما تزخر به مناطقهم من ثروات باطنية وأراضٍ زراعية يمكن أن يجعلهم يعيشون في وضع أفضل كثيراً من سكان لوكسمبورغ وسنغافورة. فعددهم لا يتعدى خمسة ملايين نسمة، مقارنة بنحو أربعين مليوناً في باقي المحافظات، والثروات التي تدرّها الصحراء تشكل 98 بالمئة من إيرادات الصادرات، لكون الصادرات الجزائرية تقتصر تقريباً على المحروقات. هم يرون أنّ مناطقهم هي مصدر ثروة البلاد، أمس واليوم، ومؤهلة لأن تكون مصدر الثروة على الدوام لتعدد الطاقات الاقتصادية الكامنة فيها. فإلى جانب النفط العادي والغاز الطبيعي، تزخر باحتياطي ضخم من الغاز الصخري. وهي أكبر حقل لاستخراج الطاقة الشمسية في العالم، وبها مياه جوفية تكفي لمئات السنين، ومعادن اليورانيوم والذهب والتربة النادرة «les terres rares»، فضلاً عن خصوبة الأراضي وقدرتها على إنتاج كل أنواع المزروعات، بما فيها الحمضيات التي كانت تنتج فقط في المناطق الساحلية.
ضمن فيديو وُزِّع عبر موقع «يوتيوب» إلى كل العالم، يقول أحد أعيان الطوارق إنّ أراضي تمنراست استولى عليها غرباء. ومناصب الشغل في شركات البترول والغاز في حاسي مسعود (محافظة ورقلة) وحاسي الرمل (الأغواط) وعين امناس (اليزي) وغيرها يسيطر عليها الشماليون، من المدير إلى المهندس، وحتى عاملة النظافة، فيما سكان المنطقة طحنتهم البطالة والفقر وقلة الحيلة. ومن أخطر ما ورد في كلامه: «من قال من أبنائنا إنّه يريد الرحيل إلى اسرائيل، أقول له: الله يساعدك»، وهو صوت غريب عن البيئة الجزائرية التي تجد فيها حتى الآن شعارات بالمحلات التجارية والفعاليات العامة «مع فلسطين ظالمة أو مظلومة».
الفيديو انتشر على نطاق واسع على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وتناقله الجزائريون بين مستغرب ومؤيد ومعارض لتصريحاته. لكن بصرف النظر عن الموقف منها، هي تعكس حالة إحباط ويأس وغيظ شديد... وقد تصدُر تحت هذا الضغط وهذا الغيظ مواقف أكثر تطرفاً. وخلال اجتماع ضمّ غاضبين في تمنراست، ردد كثيرون عبارات من قبيل: «لقد حارب أسلافنا من أجل أن تكون الصحراء جزءاً من الجزائر المستقلة، لكن أملنا خاب... لقد ضيّعنا فرصة أُتيحت لنا كي نكون أسياداً على أرضنا، فصرنا عبيداً بيد من يحكم فينا بالحديد والنار»، والمقصود الحكام الذين تعاقبوا على الجزائر منذ الاستقلال حتى اليوم.
هذه التصريحات فعلت فعلتها لهول ما حملت من غضب بلغ حدّ لوم الأسلاف على كفاحهم لوحدة الجزائر أرضاً وشعباً. وبلغ أيضاً حدّ حفر ثقب على جدار الصدّ الجزائري السميك ضد العدو الصهيوني. الجزائريون الذين يرفعون رايات فلسطين، وهم يناصرون أنديتهم الرياضية، يخرج من بينهم من يقولها علناً: «الله يسهل طريق من أراد أن يهاجر إلى إسرائيل»... فاجعة بالنسبة إلى الكثيرين، لكن ثمة من رأى ذلك إفرازاً للغيظ والضغط الذي يعيشه سكان أو بعض سكان مناطق الجنوب ونتيجة منطقية لسياسات فاشلة على مدى عقود، وأنّه يُترجم اشتداد الخطر الناجم عن الغيظ والفقر والإحساس بالتهميش والاضطهاد في خطابات «حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة»، وهي حركة بدأت سلمية اجتماعية على إثر تظاهرات في مدينة ورقلة عام 2005، ثم صارت مسلحة بعد اعتقال عدد من أعضائها ومطاردة آخرين. وهذه الحركة نفذت بعض العمليات المسلحة على منشآت في المنطقة، من بينها الهجوم على مطار مدينة جانت الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي على الحدود مع ليبيا. وزادت خطورة الحركة حين ربطت علاقات، بنحو إرادي أو قسري، مع تنظيمات إرهابية تنشط على الأرض نفسها، بينها تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وحركة «أنصار الدين» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا». تؤكد الحركة أنّها لا تتصل بالتنظيمات الإرهابية، وأنّها تكافح من أجل حقوق سكان الجنوب، لكن في السنوات الأخيرة تغيّر اسمها وأصبحت «حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة الإسلامية»، وهو مؤشر واضح على أنّها على لقاء مع تلك التنظيمات بشكل أو بآخر. ولقد أعلنت الحركة في أكثر من مناسبة توقفها عن العمل المسلح ودخولها العمل السياسي، لكنها تظل حتى الآن في مواقعها محتفظة بسلاحها وتمارس بالموازاة حملات إعلامية من خلال تسجيل أشرطة تبثها على مواقع التواصل الاجتماعي، تندد فيها بسلوك السلطات وترفع المطالب بتغيير الأوضاع والمتعاونين الأجانب العاملين في منشآت النفط والغاز، إلى نقل صور البؤس التي يعيشها سكان محيط هذه المنشآت في بيوت الطوب والصفيح إلى وسائل إعلام بلدانهم ودعوة حكوماتهم للتدخل والضغط على الحكومة الجزائرية حتى تستجيب لمطالبهم.
وليس خفياً أنّ استنجاد مواطنين بقوى أجنبية يُعَدّ من بين أكثر الأخطار التي تتهدد كل دولة، والأمثلة ساطعة أمامنا من نتائج حركات ما سمي «الربيع العربي»، خاصة أنّ المؤامرة موجودة حتى على هذه البقعة. فكلما ليّن قائد من «حركة أبناء الصحراء» موقفه وأعرب عن استعداده للتفاوض ووقف العمل المسلح، تعرّضَ للتصفية الجسدية من جهات «مجهولة».
يدرك الجميع أنّ الواجهة الجنوبية هي الأخطر أمنياً على سلامة كل الجزائر، بموقعها على التماس مع مناطق الحروب والجماعات الإرهابية. ولا يمرّ يوم دون أن تفيد نشرات الاخبار بأنّ الجيش ضبط أسلحة أو مسلحين في تلك المحافظات المترامية الأطراف. وتزيد من خطورتها أكثر هشاشتها الاجتماعية. ولقد انتبهت السلطات للأمر خلال السنوات الخمس الأخيرة واستوعبت عدداً معتبراً من شباب الجنوب وجندتهم في صفوف قوات الجيش والدرك الوطني لتعزيز وجودهما في المناطق الحدودية بعدما تحوّل ثقل النشاط الإرهابي إلى هناك على وقع ما يجري بالجوار، خاصة ليبيا ومالي. وهم يساهمون في الدفاع عن البلد وكشف المسالك التي تعبر منها الأسلحة والمسلحين والمهربين وتجار المخدرات وأفواج الهجرة غير الشرعية. لكنّ هذا غير كافٍ. فأعداد الشباب العاطل من العمل لا تزال كبيرة مقارنة بباقي مناطق البلاد، وعدد الباحثين عن العمل أكبر بكثير من عدد المجندين في قوى الأمن.
*كاتب وصحافي جزائري