تونس | «تعلّم عوم»؛ هكذا تحدّث أمنيٌ مخاطباً شاباً يغرق. قالها من دون تردد وهو يشاهد فتى يافعاً يحاول مقاومة تيار الوادي، للنجاة، من دون أن يُقدِّم له العون. هكذا ببساطة تموت روح وتكتفي الدولة بتحديث سجلات النفوس لتستخرج «مضمون وفاة» بدل «مضمون ولادة» لعائلة الشاب عمر.«تعلّم عوم»؛ نحن نجيد الغطس جيداً هنا، نغطس يومياً في الرداءة والقسوة وتضخم الأسعار وغلاء المعيشة وأخبار الانتحار وعراك السياسيين والفساد والمحسوبية وسطوة الحاكم بأمر عصاه.
بكل بساطة الكون، لا تتواضع عالية المقام وزيرة الشباب والرياضة، ماجدولين الشارني، لتُقدِّم واجب العزاء لعائلة الشاب عمر الذي قضى نتيجة شغفه بكرة القدم، ومات إثر مطاردة أمنية، حين كان الوادي أمامه و«العدو» وراءه مدجّجاً بقنابل الغاز والعصيّ والكلاب الشرسة.
لكن يا لكرمها! استقبلت العائلة في مكتبها، ووضعت ساقاً على أخرى، وقالت في حوار أتخيّله، «البركة فيكم، متضامنون معكم، أرجو أن تتفهّموا كثرة مشاغلي ومهامي كوزيرة فلم أستطع التنقل، وقلب عالية المقام يقول لو زرتكم لرُشِقت بالحجارة ومسَّني الضر من ألفاظ بني الحي الشعبي، وقد تفسد تسريحة شعري أو يتّسخ ثوبي أو يتمزق لا قدّر الله».
فترد الثكلى «بوركت السيدة الوزيرة وبوركت خطواتك. ابني كان فتى صغيراً لا يربطه بالوطن إلا حبّ الجمعية (النادي الأفريقي)، وأقصى ما يتطلع إليه حضور مباراة لها وأن تكون الجمعية فائزة، فيعود مساءً وقد أعياه الغناء والمشي والجري هرباً من الحاكم، يعود منتشياً سعيداً رغم كل ذلك، ويحدثني عن تفاصيل المباراة، ويحكي قصصاً وبطولات عن الهرب من الأمن، يتصبّب عرقاً ويسأل عمّا إذا كان هناك شيء يؤكل! أتصدقين سيدتي الوزيرة، لم تمض أيام على وفاته وقد اشتقت إلى رائحة العرق وأهازيج حبّ النادي الأفريقي التي ترفع في أرجاء البيت؟ سيلعب الأفريقي قريباً، من سيمضي اليوم في المطبخ يقبّلني ويساعدني ويعدني بأن ينجح هذه السنة، ويقسم بكل الأيمان أنه لم يدخّن يوماً سيجارة مع أبناء الحي حتى أعطيه ثمن التذكرة؟ من سيختلس من مالي القليل ثمن التنقل والغداء في رادس؟ من سيعود ليلاً معفّراً بالتراب وفرِحاً بالانتصار أو باكياً للخسارة؟ من سيبكي معي خسارتي وفقدي ولوعتي، من سيواسيني الى حين تتنزل رحمة الرفيق الأعلى فيجمعني به؟».
ودّت عالية المقام لو أنّ الحوار انتهى سريعاً، وأنّ الأم ردّت فقط: «إن شاء الله فداك»، وأن يلتقط المصوّر بضع لقطات تأثّرٍ وينشرها على صفحة الوزيرة وتنتهي المقابلة بأقل قدر ممكن من الدراما.
لكن الأم الثكلى، من المؤكد أنها واصلت الحديث عن فقيدها ولم تطلب مالاً ولا تعويضاً. نظرت الى الوزيرة وقالت حتماً: «لا أريد إلا الحقيقة فقط، من قتل ابني ولماذا أثكلني؟ أريد الحقيقة والمحاسبة». وردّت ماجدولين، البهيّة الطلعة: «فتحنا تحقيقاً وسنصل إلى الحقيقة». لكن ربما فاتها أن تقول إنّ الحقيقة الوحيدة في هذا الوطن هي أن «الحقائق لا تظهر أبداً». فحقيقة من قتل شهداء الثورة لم تظهر بعد، وحتى من خلنا أنهم القتلة قيل لنا إنّها «إشاعة»، وحقيقة اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي تناثرت بين أروقة المحاكم ووُئدت هناك، وحقيقة من قتل وليد دنقير، أيضاً دُفِنت معه.
علينا أن نتعلم العوم جميعاً، فلربما نعثر في الاعماق على حقيقة ما، علينا أن نتعلم العوم حقاً، فالسطح خانق وقاتل، والقاع أرحم.