يدلّ النقاش التاريخي في المسار الذي سلكته حركة التحرير الوطنية وتهميش بعض الفاعلين أو استبعادهم، على حالة تمزّق تُصيب الذاكرة الوطنية. كيف تحلِّل الجدل المتكرر بشأن «شرعية» المكوّن الذي «استولى» على السلطة عند الاستقلال؟
بداية، يجب ألا يغيب عن بالنا أن تطور الحركة الوطنية والمنحى الذي سلكته نتج جزئيّاً من السياسة التي اعتمدتها الدولة الاستعمارية، التي حاولت بكل الوسائل كسر جيش التحرير الذي كان يشكل حجر الزاوية في نظام الجزائر المستقلة.
بين عام 1959 وعام 1961، كان هناك نحو 400 ألف جندي فرنسي في الجزائر دون احتساب القوات الاحتياطية، والميليشيات الأوروبية والحركيين (القوات المحلية التي انضمت إلى الجيش الفرنسي) للسيطرة على 10 ملايين نسمة، من ضمنهم مليون أوروبي. خلال الهجمات الكبيرة التي قام بها الجيش الفرنسي بين عام 1958 وعام 1960، قُضيَ على 60 في المئة من أفراد جيش التحرير الوطني، خلال عمليات التفتيش والقصف المكثف وإنشاء مناطق محظورة.
ولخنق جيش التحرير ومنعه من الحصول على العتاد، وضعت فرنسا على طول الحدود مع تونس والمغرب خطي «شال وموريس»، وهما عبارة عن أسلاك شائكة مكهربة، إضافة إلى بطاريات الأسلحة الثقيلة التي تسترشد بها الرادارات، وحقول ألغام.
وجد جيش التحرير الوطني نفسه منقسماً بين جيش مقاوم داخل البلاد سُحق تدريجاً بواسطة محادل الجيش الفرنسي من جهة، وجيش تحرير على الحدود مجهز ومنظم جيداً ومدرب مثل جيش كلاسيكي على أيدي ضبّاط فارين من الجيش الفرنسي.
لاحقاً، ستَنشأ الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (التي تأسست في أيلول/سبتمبر 1958 لقيادة المعركة السياسية على المستوى الدولي)، وقيادة جيش التحرير، ما يسمى «لجنة عمليات الشرق» و«لجنة عمليات الغرب» على الحدود، وستتوحد لاحقاً ضمن هيئة الأركان العامّة لجيش التحرير الوطني، بقيادة هواري بومدين وضباط آخرين، بعضهم كان فاراً من الجيش الفرنسي. تدريجاً، بتنا أمام نظام إدارة حرب تحريرية برأسين: الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من ناحية، وهي تتكون من مؤسسات وهياكل ذات طبيعة سياسية ودبلوماسية، وتسيطر على كل فروع جبهة التحرير الوطني في الداخل والخارج، وهيئة الأركان العامة من ناحية أخرى.
بين عام 1958 وعام 1961، بدأت تظهر اختلافات في التصورات الاستراتيجية للحرب الثورية. اتهمت معاقل المقاومة في الداخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والأركان العامة بأنهما لم تواكبا الاستراتيجيات الجديدة التي اتبعتها الدولة الفرنسية، وشهدنا عملية إضعاف للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، حاولت خلالها هيئة الأركان العامة الاستفادة من أجل فرض تصورها لإدارة الحرب. وفي سياق المحادثات التحضيرية لمفاوضات إيفيان، أثيرت مسألة من يملك حق التحدث باسم الثورة الجزائرية للتفاوض على شروط الاستقلال، ليعود الصراع المفتوح بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وهيئة الأركان العامة حول مسألة السلطة وشرعية الجماعة الحاكمة. أي طرف يمتلك السلطة على الآخر؟ لم تعترف معاقل المقاومة بهيئة الأركان العامة وبومدين كممثلين حقيقيين لجيش التحرير؛ كان التعارض بين ولايات الداخل وجيش التحرير الوطني في الخارج. لكنها اعترفت جزئيّاً بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كممثل رسميّ للشعب المكافح ومؤسساته. من جهتها، رفضت هيئة الأركان الاعتراف بشرعية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية واتهمتها بالفشل في الوفاء بالتزاماتها لجهة مواجهة استراتيجية الدولة الفرنسية واشتبهت في أنها قدمت تنازلات في المفاوضات على الاستقلال.
مع حلول ربيع عام 1962، برزت مشكلتا الوفد المشارك في مفاوضات «إيفيان» وشروط السلام. وفي ختام الاتفاقات، كان على وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، الذي ضم أيضاً ممثلين عن هيئة الأركان العامة، تقديم تقرير إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية (برلمان الثورة) الذي كان يضم ممثلين عن جميع قادة المقاومة ومؤسسات من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، كما كان من الضروري أن يحوز اتفاق وقف إطلاق النار المبرم مع فرنسا موافقة الجمعية العامة في مؤتمر طرابلس.
انبثقت من هذه المفاوضات سلسلة اتفاقات تنصّ على إنشاء هيئة تنفيذية مؤقتة في فترة الانتقال من الدولة الفرنسية الاستعمارية إلى الدولة الجزائرية المستقلة (آذار/مارس ـــ تموز/جويلية 1962)، يكون مقرها الجزائر وتضم ممثلين عن جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني وعن الجالية الأوروبيّة والسلطات الفرنسيّة. واتفق أيضاً على أن يحتفظ الجيش الفرنسي بقواعد له في الجزائر، بما في ذلك قاعدة المرسى الكبير الجوية وموقع لاختبار الأسلحة النووية في الصحراء، والحفاظ على المصالح الاقتصادية لفرنسا في الجزائر.
وضمن هذا السياق بدأت هيئة الأركان العامة في المزايدة، على اعتبار أن الحكومة المؤقتة رضخت في مسائل ذات طابع سيادي غير قابلة للتفاوض. لكن برز جوهر المشكلة خلال مؤتمر طرابلس عام 1962 عندما أصبح من الضروري تحديد الجهة التي تمتلك الشرعية الكافية لتسليم أدوات السيادة للشعب الجزائري من خلال جمعية تأسيسية جزائريّة.
انتهى ذلك المؤتمر بطريقة مخيبة للآمال أدت إلى انقسام الحركة الوطنية إلى عدة توجهات، وانتصر تحالف هيئة الأركان العامة وعلى رأسه بومدين والمعارضون للحكومة المؤقتة داخل البلاد والمجتمعون ضمن ما سمي «مجموعة تلمسان». ونجد ضمن المجموعة ممثلين عمّا يسمى «تيارات ليبرالية» مثل فرحات عباس وعلي بومنجل، وأنصار المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني الذي يرأسه محمد خضر، وأحمد بن بلة وأنصاره الذين تحالفوا ضد الحكومة المؤقتة. خرجت «مجموعة تلمسان» منتصرة في المواجهة، وقامت بمسيرة بمشاركة الوحدات الآتية من الحدود، ضد جيش الداخل، واستولت على السلطة مستبعدة أو مهمشة خصومها عند انعقاد الجمعية التأسيسية عام 1962.
ثمة رهان سياسيّ على كتابة التاريخ بسبب ثقله في بناء الدولة الجزائرية


منذ تلك اللحظة، صارت السرديّة، التاريخ، وذاكرة حرب التحرير في أيدي المنتصرين. وبخسارة اللعبة، فقدت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أيضاً فرصة تبرير سياستها وكسب النفوذ لدى جزء من الرأي العام الجزائري.
بعد الاستقلال، في أواخر السبعينيات، ومع ازدياد عدد الولادات بعد الحرب، صار 75 بالمئة من السكان تحت سنّ العشرين، لم تعرف هذه الفئة العمرية الشابة الحرب، وكانت تجهل الرهانات السياسية لتلك الفترة. ما حدث بالنسبة إليهم هو التاريخ الرسميّ، ما وجدوه في الكتاب المدرسي. لقد تحوّل تاريخ الحركة الوطنية إلى تاريخ المنتصرين الذين أسكتوا المهزومين في جميع مراحل الحركة الوطنيّة، من «المصاليين» (نسبة إلى مصالي الحاج) إلى الحكومة المؤقتة.

لكن ألا تعتبر أن إجراء إعادة قراءة للتاريخ لتأييد خطاب يحمل طابع الضحيّة وإدانة الرواية الوطنية له وظيفة سياسية بارزة؟ ما هي رهانات التشكيك في الرواية الرسمية؟

لا شك في أنه يوجد رهان سياسيّ بسبب ثقل التاريخ في بناء الدولة الجزائرية. لقد ولدت هذه الدولة من رحم حرب تحريرية، وما زال الانتماء إلى المقاومة أو التعامل (مع العدو) أمرين مهمين لناحية إضفاء الشرعية السياسية على المجموعات الحاكمة.
من خلال إثارة الشكوك والشبهات حول بعض القادة وإدارتهم لشؤون الدولة، نسعى إلى التشكيك في صدقيتهم. وعندما يفقد هؤلاء شرعيّتهم المستمدة من المشاركة في المقاومة، تستعيد المعارضة قوتها؛ عندها نكون بصدد إعادة كتابة التاريخ. تصبح كتابة «تاريخ مضاد» عمليّة سياسية واضحة للتعبير عن معارضة الجماعة الحاكمة. ويصير «التاريخ المضاد» هادماً للرواية الرسمية التي تُدرَّس لملايين الأطفال في المدارس، ويشكّك في شرعية السلطات القائمة.
وحتى في حال بقاء الشرعية التاريخية الثورية مصدراً مهماً للشرعية، فإنّها لن تكون حاسمة، إذ توجد اليوم قضايا أخرى مثل الخيارات الاستراتيجية للتحالفات الداخليّة والخارجيّة.
نحن في مرحلة جديدة يفقد التاريخ فيها رسوخه تدريجاً دون أن يفقد أهميته. في صناعة الكتب الجزائريّة، يُعدُّ كتاب التاريخ من الكتب الأكثر مبيعاً، ولا تمرّ فترة واحدة دون وضع نصب تذكارية للحرب.

كيف تشرح حقيقة أن بعض الأصوات، باسم إعادة إجراء قراءة ضرورية للتاريخ الجزائريّ بأكمله، تعيد تأهيل خطاباً يحنّ إلى «رسالة فرنسا الحضارية»؟

السؤال الأول الذي يجب الإجابة عنه هنا، هو ما إذا كان إنتاج المعرفة التاريخية هو إنتاج ذاتي مستقل عن النظام. انطلاقاً من هذه النقطة، يجب علينا أن نتساءل عن دور الجامعة التي تصنع المؤرخين. في هذا «المصنع»، تسود الرواية الرسمية للحزب المنتصر. يعني ذلك أنّ الكتب المدرسيّة وبرامج التاريخ في المدارس الثانوية والكليات، تعكس موقف القوي.
أنا أُدرّس التاريخ منذ عام 1970 في جامعة الجزائر، أي منذ 48 سنة. مكنني ذلك من معاينة تطور المحتويات ونتائج الإصلاحات التي أدخلت إلى منهاج تدريس التاريخ عن قرب. قبل التسعينيات، كان تاريخ الجزائر المعاصر يدرَّس في ثلاث سنوات تُختَم بتقديم إجازة. كان يُدرَّس تاريخ الغزو والاستعمار، وتاريخ مرحلة ما بين الحربين العالميتين مع نشوء القومية، وأخيراً تسلسل الحرب العالمية الثانية وفترة ما بعد الحرب وحرب التحرير. تدريجاً، خفضنا سنوات دراسة تاريخ الجزائر المعاصر من ثلاث سنوات إلى سنتين فقط، ومع بدء تطبيق «نظام أمد» (إجازة ـــ ماجستير ـــ دكتوراه)، ولم يعد تاريخ الجزائر المعاصر يُدرَّس إلا في الجذع المشترك بين أقسام السنة الأولى، وفي أغلب الأحيان لطلاب ليس التاريخ مجال تخصصهم. بينما لا يعرف الطلاب الذين يتخصصون في التاريخ أي شيء تقريباً عن التاريخ المعاصر، ويُوجَّهون مباشرة إلى مواضيع دراسية قابلة للنقاش إلى حد كبير. كذلك تُحدد الحكومة برامج الماجستير والدكتوراه، وتسيطر عليها بطريقة غير مباشرة اللجنة الثقافيّة لجبهة التحرير الوطنيّ، التي تفرض تاريخ الحكام الحاليين.
المشكلة الثانية تقع في مستوى الإصدارات. لدينا القليل من الأعمال الأكاديمية التي تُنشَر، لأنها لا تلبي الصفات المطلوبة لتكون كتاب تاريخ مرجعيّاً. غالبية الكتب في السوق لا تخرج من الجامعات، والرواية المضادة متروكة إذاً على الهامش. مثلاً، لا توجد مكتبة جامعية جزائرية لديها اشتراك في مجلة النقد الاجتماعي (نقد) التي أديرها منذ 27 عاماً، فيما يشترك فيها ما يقارب 150 جامعة حول العالم، بما في ذلك جامعة هارفارد وكامبريدج وأكسفورد وغيرها. لا يستطيع طلابي الوصول إلى هذه المجلة، ولا يعرفون أن أستاذهم هو مدير النشر فيها، وهذا يدل على أنّ من غير الممكن أن تنشر الخطاب المضاد في الجزائر، لكن ينشر في الخارج، ومن ثم يُهرّب إلى الداخل.
أخيراً، وللحديث عن الأجنحة الليبرالية والمشككة، يجب أن نفهم الرهانات الجديدة التي هي عبارة عن تحالفات جديدة. اليوم، في ظل هذا النظام المعولم، هناك فصل بين احتكار الدولة وتشكيل الأوليغارشية التي تعيش فقط على دعم السوق العامة، رأس المال الأجنبي، دعم البنك الدوليّ، صندوق النقد الدوليّ، والشركات المتعددة الجنسيّات. لذلك يعود هؤلاء تدريجاً إلى القيادة ويدفعون من أجل تاريخ مُراجع ومُعدّل. إنّه تاريخ مضاد لمصلحة التيارات الليبرالية التي تبحث في الوجوه المستبعدة خلال فترة حرب التحرير عن آبائها المؤسسين. (هكذا) سنبدأ بنشر قصة بن جلول، رئيس «اتحاد المسؤولين المنتخبين في المجالس الجزائرية للمستعمرة»، وسنكرِّم فرحات عباس و«الاتحاد الديموقراطيّ للبيان الجزائريّ»، بينما نستبعد التيارات الأخرى الراديكاليّة والأصولية.

لماذا نجد هذا الانقسام حول شخصية عبان رمضان اليوم، وكيف تفسّر تبني شخصية وطنيّة غير بربرية من قبل حركة هويّاتيّة؟

عبان رمضان هو اسم كبير في حد ذاته، لأن انضمامه في شباط/فبراير 1955 إلى «لجنة التنسيق والتنفيذ» التي كانت الهيكل المدير لحرب التحرير بين عام 1954 وعام 1958 كان يهدف إلى فرض «جبهة التحرير الوطنيّ» منظمةً سياسية تحكم حصريّاً. كان هدفه دمج جميع القوى التي رأى فيها الفرنسيون قوّة بديلة ثالثة تحت لواء قوات جبهة التحرير الوطنيّ، دمجهم ليس فقط من خلال المفاوضات، بل أيضاً من طريق الإكراه. كان راديكالياً لا يقبل المساومة، فتح باب الانضمام إلى جبهة التحرير الوطنيّ أمام عناصر لم تكن تتفق معه على فكرة الكفاح المسلح، حتى إن بعضهم كان يعارض ذلك.
لم تُسر معاقل المقاومة التي كانت قد بدأت بالفعل في تنظيم هياكلها الإدارية في الجبال وفي الريف، بالسلطة المطلقة التي أعطيت لعبان رمضان، لتخرج إلى العلن من جديد مسألة أفضليّة الجانب السياسيّ/ المدنيّ على الجانب العسكريّ. احتوت هذه المسألة أهداف الحرب، واستراتيجية حرب التحرير. هل كان من الضروري وقف الأعمال الحربية بسرعة للانتقال إلى فترة انتقالية وإنشاء هيئة حكومية حتى لو كانت شبه مستقلة لإدارة الشؤون الآنية من طريق دمج جميع الطبقات السكانية، بغضّ النظر عن موقعها في الثورة؟ لم ترَ معاقل المقاومة الأمر بهذه الطريقة، وهنا بدأت أزمة الأوراس (الولاية 1)، معقل المقاومة الذي رفع شعار «الثورة، جيش التحرير»، أي أفضلية الجيش الذي بدأ بتحرير البلاد على الجبهة السياسية للتحرير الوطنيّ.
في «مؤتمر الصومام» عام 1956، نجح عبان رمضان في فرض وضع السلطة السيادية وشبه الحصرية بيد «لجنة التنسيق والتنفيذ»، أي أفضلية السياسة وسيادتها. وكان رمضان قد فرض على معاقل المقاومة في الداخل تعيين كبار الضباط من ذوي رتبة قائد. اختلف المقاومون مع هذا النهج لأنه حتى تلك اللحظة، كانت الترقيات والتسلسل الهرميّ يجريان من الداخل واستناداً إلى التجارب الميدانيّة. لكن مع قرار «مؤتمر الصومام» بقيادة عبان رمضان كصوت مهيمن، فقدت معاقل المقاومة جزءاً من قوتها وأعرافها الداخلية، حيث أجبرت على قبول أشخاص مسقطين ضمن لجان الولايات، أشخاص لم يثبتوا جدارتهم في الميدان. نحن أمام خلافات كلاسيكية نجدها في جميع حروب التحرير، وهي ليست فريدة من نوعها وخاصة بالجزائر.
كان السؤال المركزي هو من ينبغي أن يقود حرب التحرير، واكتسبت شخصية عبان رمضان أهمية ضمن ما كان يُسمى «معركة مدينة الجزائر». غير أنّ هذه المعركة التي أثارت الكثير من ردود الأفعال السلبيّة، أدت إلى تدمير جبهة التحرير الوطنيّ في الجزائر العاصمة، وبالتالي إضعاف عبان. إن الإضراب العام الذي استمر لمدة ثمانية أيام كان له تأثير على الرأي العام العالميّ، والأصداء في الأمم المتحدة لأن جبهة التحرير الوطنيّ كانت تملك ما يثبت قوتها التمثيليّة على رأس المقاومة الجزائرية. كان هذا هدف عبان رمضان الذي أراد كسب الرأي العام الدوليّ والدول الأجنبيّة للضغط على فرنسا لتمنح الجزائر استقلالها.
عارضت معاقل المقاومة رؤيته، معتبرة أن الحرب ستكون طويلة الأمد، وأنّ من الضروري كسب قضية الشعب قبل الذهاب للتفاوض على أي شيء آخر. وجد عبان نفسه تدريجاً ضمن الأقليّة، لكنّه أراد استعادة سيطرته على قيادة الثورة، فبدأ بمحاولة إقامة تحالفات مع قادة المقاومة، وخاصة ضمن منطقة القبائل. بدأ في بسط سيطرته على الصحافة المقاومة، والمنظمات التابعة لجبهة التحرير الوطنيّ، مثل «الاتحاد العام للتجار» و«الاتحاد العام للعمال» الجزائريين، وعندها اعتبر قادة المقاومة أنه تجاوز الخطوط الحمر وقتلوه.
وبذلك ، تحول عبان رمضان إلى شخصية مثاليّة لمعارضة كل من يقف في مواجهة السلطة. وفي الوقت نفسه، وبما أنه كان من القبائل دون أن يحمل نزعة قوميّة بربريّة، استخدمته الحركة البربرية الثقافية في الثمانينيات، ثم بين عامي 1990-2000، كورقة لتسوية الحسابات بين «العرب» و«القبائل». وقد أشيع لاحقاً أن سبب اغتياله لم يكن ما ذكرته للتو، بل قضية تصفية قيادات حركة التحرير من القبائل. لقد زُوّر السرد التاريخيّ لخلق سرديّة هوياتيّة.

ما الدور الذي تؤديه اليوم «الذاكرة التاريخية» في صناعة الأجندات السياسية؟

شيئاً فشيئاً نرى أنّ التاريخ المتفق عليه بالمعنى الأكاديمي، والبحوث، والعمل على الوثائق والأرشيفات، تفقد مكانتها لمصلحة الذاكرة. وفي الذاكرة، هناك ذكريات متفق عليها، وأخرى منسية وصادمة. إذا تركنا المجال للذاكرة وحدها، فإننا سنفقد التاريخ تدريجاً.