إن كنت تحبّ الانفجارات الكونية حبّاً جماً، فلا بد من أن تسمح للشاشة بأن تصفعك كلّ حين، بلا رحمة، بالضوء المتساقط من الصور المتحركة المضيئة. أفكّر: إن الطيف المرئي من الضوء، الذي تسمح لنا العين البشرية بمعاينته، هو طيف محدود للغاية مقارنة بمجمل أطياف الضوء الموجودة والتي لم نرها قط. وهذا درس أساسي في الفيزياء كنا قد حفظناه في الصف السادس أو السابع ربما، وحينها لم أكن قد زرت دار سينما بعد. كذلك الطيف السمعي الذي نختبره يُعتبر ضيّقاً جداً. أفكّر دائماً أن حواسنا بائسة قد تشكل بؤساً لا شفاء منه، فهي شديدة المحدودية والبدائية، ولا بد أن الكائنات الأرقى التي في الكواكب الأخرى تسخر منا على الدوام لأجل ذلك. أحاول أن أتخيّل شكل وصوت الفيلم السينمائي الذي من الممكن أن نتابعه لو كنا نرى ونسمع أكثر، لكني لا أصل إلى نتيجة.
لا أستطيع حتى تخيّل لون إضافي واحد. لا نعرف أن نتخيّل إلّا مما رأيناه سابقاً. لكن الأمر مختلف في السينما، فهم يصنعون عوالم لم يرها أحد من قبل، ويجعلوننا نشعر أننا اختبرناها في حياة سابقة.

صديقنا الروسي، تاركوفسكي، يقول إن غاية السينما هي أن تحضّرك للموت.
الموت كثير في بلادنا، لكن لا أحد يحضّرنا له. ربما لو كان النفط أقل، لكانت السينما هنا أصدق.

■ ■ ■


أعتقد أن جميع الناس يرغبون سرّاً بالتسبب بالأذى أو الخراب، حتّى أولئك الأشخاص بالغي اللطف، لا بد من أنهم يوماً ما رغبوا بـ«معس» نملة من دون سبب واضح. مَن يذهبون في طريق صناعة الأفلام يأخذون الخطوة بين رغبتهم تلك وتحقيق الرغبة، بأكثر الطرق دماثة وشيطانية. جميع السينمائيين مجرمون، ولكن ليس جميع المجرمين محظوظون بما يكفي ليكونوا سينمائيين. إلحاق الهزائم بشكل جمعي أمر مغرٍ جدّاً في نهاية المطاف. وأجمل ما في الموضوع أنّ ضحاياهم يأتون إلى قاعة السينما طوعاً على أقدامهم، مسرورين بقرارهم الشجاع بدخول عالم الوهم، ملقين بأسلحتهم وأقنعتهم جانباً، مُغرِقين أنفسهم في العتمة، مستعدّين لتلقّي كل ما هو آت. أحدهم أتى ليبكي، لأنه لا يستطيع في الضوء. أولئك المرضى، طالبي الخلود، الذين يعملون في صناعة السينما، لا تثق بهم أبداً. إنهم يريدون أكثر من أي شيء أن يجلسوا في عرش الله.

■ ■ ■


أمام سينما روكسي (أو أمبير أو راديو سيتي، لا فرق)، كان يقف حسن بطقم السهرة الكحلي ويعترض طريق الداخلين إلى السينما أزواجاً، ويوشوشهم «بهيدا الفيلم البطل بيموت»، فيدفعه الشاب دفعة خفيفة ويمسك بيد خطيبته ويمشيان بعيداً. أو قد يقول لامرأة «الشقرا هي اللي بتفسد عالبطل يا ست» فتُبهَت في مكانها ثم تختبئ وراء زوجها، أو يقول: «سيجد الكنز ويتزوّج امرأة صديقه في النهاية!»، فيخرّب عنصر التشويق والمفاجأة على المتحمسين للمشاهدة.
«عندما تبعث عين الشاشة الفضية ذلك الضوء الخاص بها، بشكل لائق، ينفجر الكون»
( لويس بونويل)



كان هذا الشغل الشاغل لحسن، لكنّ روّاد السينما المنزعجين كانوا يخافون من لكم رجل أربعيني مرتّب في وجهه الوسيم. ذات ليلة كانونيّة قبيل الميلاد، وعندما كان الجميع بغاية الأناقة تحت ألوان وأضواء العيد، اقترب حسن من زوجين كالعادة، تخطّى الرجل كأنه لم يره، ووشوش المرأة شيئاً. الرجل المذهول مما حصل، لم يتردد في الانقضاض على حسن وتهشيم وجهه الوسيم. لم يوقفه أحد. تلك الليلة، عندما دخل الزوجان لمشاهدة الفيلم، كانت المرأة وحدها تعرف النهاية، لم تنظر إلى الشاشة، نظرت إلى وجه زوجها السعيد المتطلّع إلى الضوء. كان ذلك قبل الحرب.

■ ■ ■


كان من الممكن أن تُحكى آلاف الأشياء الجميلة عن السينما، عن لحظة دخول مارتشيللو بركة الماء مع آنيتا، عن الأزهار البرية التي في حوزة الشاب الذي على الدراجة، عن نيويورك بالأسود والأبيض، عن بيروت الستينيات عندما يشاهدها عشريني ولد أول التسعينيات، عن الكلاسيكيات التي شاهدها أهلنا وأهملناها نحن، عن جيمس دين، عن الأسماك الذهبية ووجوه الممثلات الفرنسيات.
ربما لو فهمنا الحرب أفضل، لكانت السينما هنا أصدق.