صنعاء | ■ أسبوع. اثنان. ثلاثة. أربعة...لم يعد أحد يحصي كم من الأيام مرت أو كم تبقى منها. كأننا نقضي هنا فترات عقوبة مشددة وطويلة.
هذه الليالي المتمددة على حساب شعورنا بالطمأنينة.
وهذا الوقت الذي لم يعد صالحاً للاستخدام.
منذ شهرين تقريباً، ونحن لا نجد ما نفعله.
نتلف كل ما تسنى لنا من الوقت في لعبة من باستطاعته البقاء على قيد الحياة لمدة أطول
اللعبة الأكثر إرهاقاً وغرابة في عمر البشرية.
لن تصدق أبداً أن الخاسرين رحلوا مبتهجين
أكثر بكثير منا نحن الذين ما زلنا قيد اللعبة.

■ صنعاء التي لا تردّ أحداً. تتلقّف كل شيء تقريباً.
القذائف والغبار والمطر والرصاص والطيارون الوهميون.
كما لو أنها لا تعرف كيف تقول لا.
هل هي جيوبها تفرغ الآن من السكان والسيارات والأضواء والدكاكين وكل تلك الأشياء التي تحدث صوتاً.
صنعاء المستسلمة للجميع...
لن تعبر رنين العاصفة إلا وهي مقعدة بالكامل.
ثم لن تجبر هشاشة الحياة فيها أحداً.
ستتحسّس رائحة المطر يسيل عارياً في الشوارع مثل قشعريرة باردة في العمود الفقري،
متذكّرة أنه كان بإمكانها أن تكون ملاذاً آمناً، ولو مرّة.


■ عندما ستنتهي الحرب...
سيذهب الجرحى ليخيطوا أعضاءهم المتضررة
والشهداء للراحة في الصور المعلّقة على الحائط
والأمهات لتجفيف محاجرهن من الدموع
ليمنحن الحفيد الذي أصبح بلا أب ابتسامة كاملة...
عندما ستنتهي الحرب...
سينصرف الجميع لشؤونه الخاصة دون ضجيج
وحدهم أسياد هذه الحرب...
والذين لم يتمكنوا من الربح أكثر...
سيملأون الشاشات كالمخلّصين للحديث عن البطولةهذه المدينة ثلاجة مفتوحة لأولئك الذين ينتظرون الموت أكثر
الضجر نزيل قديم أقدم من المدينة حتى
يتسكع في الشوارع المطفأة
ويسدّد ديونه من الدكاكين التي تبيع الخيالات المستعملة
هذه المدينة السجن ممر خلفي حيث تحدث الحياة على الهامش
دون أن ينتبه لها أحد
وبالقدر الذي يسمح لنا بالاستيقاظ تعساء كل يوم

■ تسيطر فكرة مغادرة صنعاء على ذهن أمي تماماً.
تغذّيها أصوات الانفجارات التي لا تتوقف...
«يلا ننزل، مو عاد باقي معنا هنا»، هكذا تقول.
يزيد من قلقها جيراننا وهم يركضون إلى سياراتهم المحمّلة بعفشهم. يغادرون هم فيزيد تمسّكها هي بالسفر.
احاول قدر الممكن تجنب الاصطدام بقلقها، مختصراً يومياتي العادية.
إصابة ابن خالي أيضاً جعلتها أكثر توجّساً...
أشاهد فزعها كلما خرج أحدنا لمشاوير لا تتعدى البقالة أو المخبز.
تجاهد أمي رغبتها في وداعنا كل مرة وتعتبر ذلك فألاً سيئاً...
لا تفعل وإن كانت تخشى من فقداننا بلا وداع...
وهكذا كل يوم...
في الحقيقة...
لا شيء أبداً يستحق عذابات الأمهات واحتراقهن على هذا الشكل...
لاشيء...
لاشيء...