«شكلو غلط». هذا ما قاله السائق وهو يشرح لزملائه السّائقين في موقف «السّومرية -دمشق»، أسباب رفضه اصطحاب عائلة «أبو ساري» معه من سوريا إلى لبنان. هكذا، بكل صراحة ولياقة ممكنة، ببساطة، طلب منهم العودة إلى منزلهم. هذا «أفضل لهم لأنّ الأمن العام اللبناني لن يسمح لهم بالعبور».
بحسب السائق، الأمن العام لن يسمح لهؤلاء بالذات بالدخول إلى الأراضي اللبنانية الكريمة: «هؤلاء من هم بنظر الأمن العام اللبناني شكلهم غلط». والسّائق الفجّ والعنصري، كان يحاول أن يكون أميناً وإنسانيّاً. بالتأكيد، لا يقصد الإساءة أو الاستخفاف بمظهر «أبو ساري». جلّ ما في الأمر أنه لم يشأ لهذا الرجل ولزوجته وأطفاله الصغار جدّاً، أن يتكبّدوا عناء الطريق ليُهانوا ويعودوا أدراجهم خائبين. وهو يعرف أكثر من غيره مرارة الذّل التي يتجرّعها المواطن السوري الّلاجئ كل يوم على الحدود اللبنانيّة.
كانت العائلة شأنها شأن كثير من العائلات السورية على علم بقرار الحكومة اللبنانية بوقف استقبال اللاجئين السوريين. لم يشغلوا بالهم بالرحيل من قبل، لكن هذه الأخبار سرعان ما تبدّلت إذ أخبرهم ذووهم في لبنان، بقرار فتح الحدود اللبنانيّة ــ السوريّة، لمدة أسبوعين لمناسبة الأعياد. حزموا حقائبهم واستعدّوا لترك أتون الحرب المشتعل في سوريا والفرار إلى تركيا بالباخرة عبر لبنان. لكن للأسف لم يخطر ببال هذه العائلة، أن هذا القرار هو قرار «جزئي» وأنه ساري المفعول على معايير «شكلية». «شكليّة» بمعناها اللغوي الدقيق، وبحسب سائق التاكسي، أبو ساري «شكلو غلط»، ولا تنطبق عليه المعايير! ماذا عن أم عبدو؟ ترى هل سنأخذها معنا أم لا؟ هل تعبر هيئتها وهندامها الحدود؟ هذه الأسئلة بدت واضحة في عيني السائق ونظراته الحائرة. فهو منهمك بالتّحليل. لم يستطع تحديد ما إذا كانت أم عبدو ستعبر أم لا! فقرر المحاولة. ولِمَ لا؟ لن يخسر شيئاً. فهو معتادٌ على مصارحة المسافرين، السوريين خصوصاً، بالوضع القاسي على الحدود واحتمال الرجوع، كما أنه يقبض أجرته كاملة مهما حدث. القرار للمسافر، فهو لم يغشّه. يحلل السائق كثيراً، لكنه لا يغش.
وفي الغالب، يقرر المسافر المغامرة، والاتكال على الله. وطبعاً، أم عبدو لن تنتظر رحمة أحد في ظل وجود رحمة الله، فقرّرت المغامرة، متكّلة على الله، لا على السائق، ولا على الرئيس القائد، ولا على الثائر. كانت على ثقة بأن الله لن يخذلها، رغم كل ما سمعته من حكايات عن مسافرين أُرغموا على العودة وعن آخرين أمضوا ليالٍ على الحدود ومع هذا لم يسمحوا لهم بالدخول، إلّا أن إيمانها بقي راسخاً فـ«ربّها لن يسمح بأن تعود أدراجها مكسورة الخاطر». ولن يقبل أن تخسر ما دفعته، أي أجرة الطريق كاملة، طريق طويلة وشاقّة من دمشق إلى بيروت. هي عزمت وتوكّلت على الله. وبالفعل، فإنّ ذكر الله لم يفارق لسان المرأة طول الطريق. عند كل حاجز، وعند كل نقطة تفتيش، ظلّ ذكره على لسانها حتّى عندما وصلت إلى الحدود اللبنانية وأصبحت على تماس مع رجال الأمن اللبناني وقدّمت هويتها طالبةً المرور.
«خلّيكي برّا». هكذا جاء رد موظّف الأمن العام على طلب أم عبدو. صرخ بوجهها «انتظرِي في الخارج ألا تفهمين، قفي حيث يقف الآخرون». صراخٌ كثير يصمَ الآذان. انسحبت المرأة باستحياء، جرّبت أن تتوسّط لدى الكثيرين، رجت واستنجدت كثيراً، لكن بلا جدوى انتهى بها المطاف في ذلك الصف الطويل. صف الّذين «شكلهم غلط». صف الذين لم يرتقوا لدخول هذا البلد الجليل، طبعاً بعد أن دفعت أجرة الطّريق كاملةً. صحيح، أنّ صف الممنوعين من الدخول طويل، لكن في المقابل هناك الكثيرون ممّن سُمح لهم بالدخول وختم الأوراق والدخول إلى الأراضي اللبنانية المبجّلة! لميزةٍ واحدة لا غير على ما يبدو، وهي أن «شكلهم مش غلط».
بطبيعة الحال، يمرّ أصحاب الهوية اللبنانية «مرور الكرام». بمجرد أن يلوّح أحدهم بالهوية اللبنانية، تُفتح أبواب الوطن المجيد في وجهه، وترتسم البسمة على وجوه المتعسّفين. لوهلة، تشعر بأنك ذو قيمة وأن هويتك التي لطالما حلمت باستبدالها، تغدو فجأة ذات قيمة، وأن النشيد الوطني يبث من مكانٍ ما، ربما من عرش الله المصنوع من خشب الأرز، أو من شاشة محليّة تطل منها مذيعة بملامح فينيقيّة. لكن أيّة قيمة وأين؟ هنا؟ على هذه الحدود البائسة التي تُغلق في وجه اللاجئين المحتمين بأرض الله الواسعة؟