يمشي الناس على الرصيف المحاذي لحائط مقبرة الباشورة إلى حياتهم العادية. يلامس صخبهم سكون الراقدين خلف ذلك الحائط الذي يفصل بين نقيضين صارا مع الوقت أليفين. هذه المقبرة، التي جايلت أبناء منطقة الباشورة وأهالي بيروت عموماً، صارت جزءاً من حياة العابرين والساكنين أيضاً. هؤلاء الذين باتوا يدّخرون لموتهم، تماماً كما يدّخرون لأيامهم المقبلة. هكذا مثلاً، يفعل صاحب الدكان الصغير في الحي. «يجمع» لموته كي يحظى بقبر يليق به. وهذا ما يفعله أيضاً حارس المقبرة، الذي يعيش الموت يومياً.

تراه جالساً عند باب المقبرة. ينفث سيجارته منتظراً الزائرين. وهو، عندما يرى أحدهم متجهاً نحوه، يترجّل عن كرسيّه ليسأل الآتي من له في هذا المكان. حتى إذا عرف اسم الميّت الذي يقصده، سمح له بالدخول. يدخل رجل أربعينيّ، يلفّ بذراعيه جرّة رخام فيها شتلة صغيرة، ويقصد قبراً بعيداً. لكنّ العامل هناك يمنعه من زرعها على المساحة الترابيّة فوق القبر إلا بإذن من إدارة المدافن.
يحكي مختار منطقة الباشورة مصباح عيدو عن هذه المدافن التي هي لأهالي بيروت عامة. وقد استحدثت مقبرتان جديدتان بعدها في منطقة الطيّونة ـ دوار شاتيلا، وهي مدافن الشهداء التي افتتحت خلال الأحداث التي وقعت في بيروت عام 1958، والمدافن التابعة لدار الفتوى ولها لجنة خاصة تتولى إدارتها، منفصلة عن جمعية المقاصد، ولكنها تعمل بالتنسيق معها. ويقول عيدو إن مدافن الباشورة «كانت تابعة للدولة العثمانية، قبل أن تتسلّم شؤونها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية العام 1960، ولا تزال حتى اليوم».
بقيت مدافن الباشورة تستقبل الأموات من أهالي بيروت حتى عام 1975، إلى أن اتخذ قراراً بإقفالها، وتحويل الدفن إلى مقبرة الشهداء في شاتيلا. وكان سبب الإقفال هو استبدالها بمشروع استثماري جديد لبعض رجال الأعمال. هكذا، «توقّفت عملية الدفن في مقبرة الباشورة لمدة 10 سنوات، بانتظار أن تتحلل كلّ الجثث التي تحتاج كل واحدة منها لسنتين تقريباً، بحسب حرارة الأرض»، يتابع عيدو. ولكن، مع اندلاع الحرب الأهلية والاشتباكات التي دارت داخل المخيّمات الفلسطينية، اضطرّ أصحاب المشروع إلى وقف التنفيذ والعودة لـ»مزاولة» الدفن في مقبرة الباشورة بسبب قرب مقبرة الشهداء من مخيّم شاتيلا.
اكتسبت مقبرة الباشورة شهرة كبيرة، لأنها تعدّ «البيت» الأساس الذي يخلد إليه موتى أهالي بيروت، ولأنها تضم الكثير من العلماء والأولياء والمسؤولين من زمن الخلافة العثمانية، وعلى رأسهم قبر والي سوريا أحمد حمدي باشا الذي يقع بجانب سور المقبرة الذي بناه العثمانيون عام 1892 من أجل فصلها عن المنازل والطرقات. ويعدّ قبر الوالي من الآثار المهمّة التي بقيت من العهد العثماني، ويتميّز بغرفته الحجريّة، التي يصعد إليها الزائرون بدرج صغير تعلوه قبة مستديرة. ومن الرؤساء اللبنانيين الذين دفنوا هناك رئيس الحكومة السابق شفيق الوزان ورئيس حزب النجادة النائب السابق عدنان الحكيم. أما أبرز العائلات البيروتية المدفونة في مقبرتي الباشورة والشهداء، فهي عيدو ومكاوي والبنّا والحوت والطرابلسي والصقّال وعلاء الدين والمصري.
حتى اليوم، لا تزال مقبرة الباشورة تستقبل الأموات، «ولن تتوقف عن ذلك، لأن مقبرة الشهداء أصبحت ممتلئة“، يقول عيدو. أما عن المدافن الجديدة التابعة لدار الفتوى، فخصصت لأهالي بيروت الذين لا يملكون قبراً سابقاً في مقبرتي الباشورة والشهداء، «أي أنه لا يوجد فيهما أحد من الأقارب»، يتابع عيدو. أما الذين يملكون قبراً في إحدى المقبرتين فيُدفنون فوق أقاربهم، شرط أن تكون الجثث السابقة قد فُنيت، وذلك إفساحاً بالمجال أمام العائلات التي لا تملك قبراً. وعن تكاليف الدفن، يوضح عيدو أن «كلفة القبر الجديد في مدافن الباشورة تصل إلى حدود الـ15 ألف دولار أميركي، بينما في المقابر الجديدة (مدافن دار الفتوى) فإن الكلفة لا تتعدى الرسوم الأساسية، أي ما يقارب الـ500 دولار“.




التلة التي صارت مقبرة

يروي أهالي المنطقة أن مقبرة الباشورة كانت في السابق أشبه بتلّة ترابية. بقيت على تلك الحال حتى عام 1829، عندما قام الشيخ عبد الرحمن الحوت، أحد أبرز العلماء المسلمين في بيروت، ببناء سور للمحافظة على حرمة قبور المسلمين. وفي تلك الفترة أيضاً، كان أبناء بيروت يُطلقون على الشخص الذي يقوم بتجهيز الميت وغسله وإعداده للدفن بـ»النصولي»، ولا يزال هذا الاسم يُطلق على إحدى العائلات البيروتية حتّى اليوم.