بعدما انتهينا من موّال الفتنة الطائفية، ها نحن على موعد مع وباء التخوين. هل نحن مقبلون على تكريس المزيد من الفاشية الشعبية وتقسيم المجتمع إلى خونة ووطنيّين؟ وهل تلك هي وظيفة الاعلام الرسمي؟مقاييس الوطنية المعترف بها، لم تعد تنطبق اليوم على الكثير من الفنانين الذين اكتشفوا، بين ليلة وضحاها، أنّهم باتوا في عداد «العملاء»! يخيّل للمراقب المتمهّل أن الاعلام الرسمي وشريكه الخاص، يريدان للوطنية أن تكون على مقاس المخرج هشام شربتجي الذي رأى المتظاهرين في سوريا حثالة، أو على طريقة الممثل زهير عبد الكريم الذي قال إنّ أي فنان لا يعلن ولاءه التام للدولة خائن.
أو ربما بات معيار الوطنية يحدّده المخرج نجدت أنزور الذي أطلق حملة، مدعوماً من شركات إنتاج سورية، لمقاطعة كل الفنانين الموقّعين على «بيان من أجل أطفال درعا» أو «بيان الحليب». وهو البيان الذي وجّه نداءً إلى الحكومة السورية، فحواه أنّ «الحصار الغذائي المفروض على درعا أدّى إلى نقص المواد التموينية، وأثّر سلباً على الأطفال الأبرياء الذين لا يمكن أن يكونوا مندسّين، أو منتمين إلى أيّ من العصابات أو المشاريع الفتنوية على أنواعها».
في الحلقة التي بثّها التلفزيون السوري أخيراً وجمعت بعض الفنانين الذين وقعوا على «بيان من أجل أطفال درعا» على رأسهم منى واصف، كان واضحاً انتقال الأزمة السورية من أزمة أمنية إلى أزمة نفسية وإنسانية ووطنية. «بيان الحليب» تحوّل إلى وثيقة إدانة وتخوين لعشرات الفنانين. لأكثر من ساعة، بدا مقدم البرنامج مراوغاً كأنه لا يحمل في جعبته إلا سؤالاً واحداً هو: لماذا لم تتعاطفوا مع أطفال شهداء الجيش؟ تقول له منى واصف: «نحن تعاملنا مع وضع محدد، وكنا أصدرنا بياناً سابقاً للتضامن مع الجيش وأبناء الشهداء». يعود المذيع إلى السؤال ذاته بصيغة مختلفة: ألم يكن أجدى بكم التعاطف مع أبناء الشهداء؟ تقول له رشا شربتجي بأنّ النداء كان عملاً إنسانياً بحتاً موجّهاً لوزارة الصحة، والتعاطف مع طفل في درعا هو تعاطف مع الطفولة. يحرك المذيع رأسه قبل أن يستدرك: «لكن الناس يلومونكم لأنكم لم تذكروا معاناة أطفال أبناء الشهداء من الجيش». تتدخل كندا علوش لتؤكد حبّها لوطنها، وتشرح بأنّ النداء إنساني في الدرجة الأولى. يبدو المذيع متفهماً وهو يهز رأسه، لكنه يقول: «أطفال الشهداء من الجيش يعانون أيضاً». كلّهم، بمن فيهم يارا صبري وزوجها ماهر صليبي، كانوا يحاولون إقناع المذيع بأن البيان يتعامل مع وضع ميداني محدّد، وأنّ الطفولة لا تتجزأ، ودرعا جزء من سوريا.
على المقلب الآخر، شهدت قناة «دنيا» جلسات زجل تخوينية عدّة، شارك فيها أكثر من فنان. وربما كان أكثرهم حماسةً زهير عبد الكريم الذي يتعامل مع القضايا ببساطة دوره الشهير «نوري المبيض»، والمخرج هشام شربتجي الذي وصف النداء بأنه خيانة ولا يختلف عن الرصاص. وقال إنّ الفنانين الموقعين على البيان هم «شرذمة وحثالة»، والمتظاهرين «غوغاء يجب التخلص منهم برشهم مثل الصراصير». في اليوم الثاني، لم يستطع المذيع جرجرة عباس النوري، وباسم ياخور، وعابد فهد، وأمل عرفة إلى اللعبة ذاتها. كان موقف هؤلاء الفنانين واضحاً إزاء رفض أي محاولة لتخوين زملائهم.
من المستفيد من هذه الصرعة الجديدة التي انتشرت فجأة على الأثير، وفوق المنابر الاعلاميّة؟ وهل يدرك قادة حملات التخوين، من أصحاب القرار الإعلامي الأمني، خطورتها وأبعادها المستقبلية؟ غداً حين ينتصر الوطن، ماذا سنفعل بكل هؤلاء «الخونة» من فنانين ومثقفين؟ ماذا سنفعل بهذا الشرخ الذي أحدثه الإعلام في بنية المجتمع؟ ربما علينا انتظار دريد لحام الذي أكد على «إن. بي. إن» اللبنانية أنّه سيكون أول الذين سيخرجون إلى الشارع، مطالباً بالإصلاح إن لم تف الدولة بوعودها خلال شهرين. وإنّ غداً لناظره لقريب.