القاهرة | قبل يومين من وفاته، شارك الكاتب المصري الساخر جلال عامر في تظاهرة تندّد بحكم العسكر في الإسكندرية. في مقابل هذا التحرّك، نظّم بعض المصريين تظاهرة داعمة للمجلس العسكري قادها الإعلامي توفيق عكاشة. وهذا الأخير يصنّفه بعضهم أيضاً في خانة الكتّاب الساخرين، لكن سخريته من نوع آخر، لا تشبه ما كان جلال عامر يكتبه في مقالاته. لعلّ هذه المقارنة بين الرجلَين والتظاهرتَين تكشف حجم الخسارة التي لحقت بالثورة المصرية الشابة بوفاة عامر الذي اعتبر من أكثر الأصوات شجاعة، وتأثيراً بين المواطنين. ولعلّ حماسته للثورة، أدّت إلى إصابته بأزمة قلبية يوم الجمعة الماضي بعد مشاركته في التظاهرة. وقد نقل إثرها إلى أحد مستشفيات الإسكندرية قبل أن يفارق الحياة صباح أمس عن عمر يناهز الستين عاماً.

لعلّ العلامة الفارقة الأولى في حياة هذا الصحافي المشاكس أنّه بدأ الكتابة بعد تقاعده من القوات المسلحة المصرية بعدما وصل إلى رتبة عقيد (جنرال).
خلال السنوات الطويلة التي قضاها في السلك العسكري، شارك في الحروب التي خاضتها مصر ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى نصر أكتوبر 1973. وهذا النصر ترك علامة اعتزاز في نفس الكاتب الذي اكتشف اليسار المصري موهبته بعد بلوغه سن التقاعد المبكر. بدأ الكتابة في جريدة صغيرة تصدر عن «حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» في الإسكندرية قبل أن يلتقطه الكاتب الموهوب صلاح عيسى ويعهد إليه تحرير صفحة البريد في جريدة «القاهرة». ثمّ انتقل لكتابة أول عمود يومي في حياته بعدما اختارته صحيفة «البديل» اليسارية كاتباًَ للعمود اليومي في صفحتها الأخيرة بهدف كسر النبرة الجدية التي كانت تحكم الصحيفة. وبعد إقفال هذه الأخيرة عام 2008، استثمرت «المصري اليوم» شعبيّته ونجاحه من خلال عموده الثابت «تخاريف»، وفتحت له باب التواصل مع جمهور أوسع من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. على الساحة الافتراضية، تمتّع جلال عامر بنفوذ كبير، وتحوّل إلى أكثر كتّاب مصر تأثيراً.
أما من ناحية الأسلوب، فيمكن تصنيف كتابات عامر على أنها امتداد لمدرسة كانت موجودة في الصحافة المصرية حتى ستينيات القرن الماضي. هذه المدرسة أفرزت كتّاباً مثل فكري أباظة، ومحمود السعدني، ومحمد عفيفي، وأحمد رجب. لكن هؤلاء اعتمدوا في حضورهم على مؤسسات صحافية كبرى، بينما بدأ عامر في سن متأخّرة نسبياً ومن موقع المهمّش الذي ساعده على التحرر من الالتزامات المؤسسية، وبناء قناعات خارج «الحسابات».
«كاتب على باب الله» هكذا كان يسمّي عامر نفسه، وهو ما كا يقرّبه من القراء، عكس أحمد رجب الذي فضّل العزلة التي أبعدته عن الناس العاديين، أو محمود السعدني الذي ارتسمت علامات استفهام عدة حول ارتباطه بأنظمة استبدادية.
من ناحية أخرى، لمع جلال عامر في توقيت استثنائي اتسم بغزارة الإنتاج الساخر الذي قدمه الكتاب الشباب في الفترة التي سبقت سقوط مبارك. ولقي هذا الإنتاج رواجاً في سوق النشر انعكس على ارقام توزيع الكتابَين اللذين قدمهما جلال عامر «مصر على كف عفريت» (2007 ــ «دار العين»)، و«استقالة رئيس عربي» (2010 ــ «ميريت»). وهذا الرواج تحديداً هو الذي دفعه إلى مغادرة دور النشر الطليعية والاتجاه إلى الدور الرائجة التي سعت الى استثمار كتابته الرشيقة. كتابات اعتمدت أسلوب الاختزال الملائم للجيل الذي تفاعل مع كتاباته، حتى أنّ بعض العبارات التي كتبها، خلّدتها رسوم الغرافيتي في شوارع
القاهرة.
ويذكر أن جلال عامر قد وُوري في الثرى بعد ظهر أمس في جامع القائد إبراهيم في الإسكندرية.