في عصر الانتفاضات والثورات العربية وما خلّفته من إشكاليات حول نشوء إعلام بديل حطّم قيود الحصرية والأبواق الرسمية وطرح أيضاً نقاشاً واسعاً حول المصداقية والصدقية، ها هي فرنسا «مهد الديمقراطيات» في العالم تُطبق على أنفاس الحرية وتمنع وصول المعلومة وإطلاع الرأي العام على ما يحصل في مالي منذ غزوها لهذا البلد تحت ذريعة محاربة «الإرهاب».
حرب مالي بلا صور، بلا مشاهد حيّة: تعتيم إعلامي مطبق حول ظروف الغزو و«الانتصارات» الخارجة من وزارة الداخلية الفرنسية حول القضاء على آلاف المقاتلين «الإسلاميين» وإخفاء أعداد الضحايا من العسكريين الفرنسيين. كاميرات المراسلين الفرنسيين تجول على المناطق المسموح باجتيازها. تنقل فرحة الماليين وترحيبهم بالقوات الفرنسية «الغازية»، تنشر دعاية الخوف والرعب الذي ينتاب السكان المهجرين الذين لجأوا الى المناطق النائية للحماية من ضراوة الصراع الدائر في البلاد. تعتيم يناقض كل أسس الديمقراطية والشفافية. تقرير لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» استعرض الترسانة العسكرية التي خصصت لخوض هذه الحرب من إرسال للطائرات التي جهِّز بعضها بكاميرات. ولم تنس فرنسا استخدام التكنولوجيا التي زرعتها في الفضاء عبر قمر صناعي للمراقبة هناك. منظومة تكنولوجية متقدمة للعسكر حجبت المعلومات ومسار الحرب وكمّمت أفواه الصحافة لتصبح بدورها ناطقة ومروّجة لهذه الحرب ولـ«شرعيتها»، ما لاقى انتقاداً واسعاً في الداخل الفرنسي. مثلاً، يقول أحد المسؤولين في مجال الإعلام وإدارة القنوات الفرنسية «إنها المرة الأولى التي يواجه فيها الإعلام هذا الشحّ في الصور».
التغطية الإعلامية الموجهة من الحكومة الفرنسية لبلد يرزح تحت الفقر والتخلف، وغياب مصادر وأصوات داخله لنقل الصور أو تسريب أشرطة فيديو كما يحدث في الصراعات التي تغلي في المنطقة، يطرحان تساؤلات حول غياب الإعلام البديل الذي غيّر معادلات ومسارات الحراك العربي واستغلال الفرنسيين لهذه النقطة للتحكم بزمام الأمور هناك وفبركة ما يشاؤون. كذلك، عرّى هذا الأمر هذه الديمقراطيات من ادعاءاتها ووضع الإعلام الفرنسي والعالمي أمام مساءلة الخضوع والارتماء في أحضان الحكومات ليصبح بوقاً لها وناقلاً لصورة حددت له مسبقاً. ولا يمكن اغفال ترافق هذا التعتيم مع تغييب أجهزة التلفزة الفرنسية وحتى العربية حرب مالي لصالح قضايا هامشية في الكثير من الأحيان.



على خطى حليفتها

التعتيم الإعلامي في مالي أعاد الى الأذهان ما حصل خلال عمليتي غزو العراق الأولى والثانية من قبل الجيش الأميركي وفرضه حظراً اعلامياً ورقابة مسبقة على مختلف أجهزة الإعلام بل تهديد أمن الصحافيين المتواجدين هناك في حال تسريب أي معلومة من خارج المنظومة الموضوعة. ترافق التعتيم آنذاك مع التسويق الدعائي للحرب في الأقنية الديبلوماسية كتلميع لصورة أميركا وشرعنة ما قامت به من غزو وقتل للأبرياء. كذلك، لا يمكن إغفال منح شبكة cnn في الغزو الأولى الحق الحصري لنقل الصور والمعلومات «المفلترة» من قبل الجيش القابض على الإعلام والميدان العسكري معاً. هكذا، تحول الصحافي الى جندي مرافق لهذا الجيش وبوق له.