في كل الأحوال، سيبقى محمد حسنين هيكل اسماً لا يمكن تجاوزه وأنت تتحدث عن العالم العربي في القرن العشرين. بحكم العمر، هو جاء إلى مهنة الصحافة بعد دور الجيل المؤسّس الذي أوجد المهنة، وخلق فاعليتها في المجال العام. هو الجيل النهضوي الذي جاء أغلب رموزه الى مصر من لبنان وبلاد الشام إثر موجة التغييرات السياسية التي شهدتها المنطقة. في تلك الفترة، برزت مصر بعدما كانت قد قطعت مسيرتها الأولى نحو بناء المؤسسات في عهد الخديوي إسماعيل وأنجزت مهمة تأسيس الدولة الحديثة في عصر محمد علي.
نجح هؤلاء المؤسّسون في تأكيد حضور الصحافة وإثارة اهتمام الرأي العام بقضايا جديدة تخص أسئلة النهضة، سواء على صعيد تناول علاقة الحاكم بالمحكومين، أو النقاش حول مكانة الدين والعلم في الحياة اليومية، أو التساؤل عن العلاقة مع الغرب الذي تحوّل الى «مستعمر غاصب»، وباتت «الحداثة» التي رافقت النهضة «حداثة ملغومة» بسبب هذا الإشكال.
جاء هيكل الى الدنيا (أيلول/ سبتمبر 1923) ومصر منشغلة بتساؤلات النهضة التي خلّفتها ثورة 1919، وتفكيك العلاقة مع إرث الاستبداد ومحاولة بناء علاقة جديدة مع الحاكم في دستور 1923 الليبرالي الذي مثل ذروة الانتقال من مفهوم "الولاية" في نطاق الخلافة الاسلامية الى الدولة الوطنية الخالصة. في هذه الفترة أيضاً، كانت الصحافة تمضي في سياقات موازية تحاول التخلص عبرها من عبء لغة "النثر الفني" التي لجأ إليها المؤسّسون بغرض إزاحة الشعر الذي كان فن العربية الأول من مرتبته الاولى، وابتكار اللغة اليومية والانتقال من "البلاغة" الى "الخبر" ومن سطوة الأسلوب الى مكانة "المعلومة". في هذا السياق، وجدت بدايات هيكل الصحافية في أربعينيات القرن الماضي وأفقها الليبرالي مناخاً تفاعلت معه. من ناحية اللغة الصحافية، وجد هيكل لغة معاصرة جعلها سلامة موسى ومحمود عزمي أقرب إلى العلم منها إلى الأدب. وعلى صعيد تقنيات الكتابة، انشغل بنموذج محمد التابعي الذي بقي نجماً ملهماً يقود خطواته الأولى نحو مصادر صناعة «المعلومة» وأسلوب صياغتها، للتحرر من الزخارف البلاغية باتجاه الاختزال والكثافة، وإعطاء الاولوية للخبر في مدرسة أسّسها علي ومصطفى أمين، وكانت عنواناً لصحافة ذلك الزمن.
«مؤرّخ» أعطى للوثيقة
الاعتبار الأول في بناء
النص التاريخي

والأغلب أنّ بداياته في مؤسّسة صحافية أجنبية والعمل بإشراف صحافي انكليزي هو سكوت واطسون مكّناه دائماً من النظر إلى الغرب خارج فكرة العداء المباشر، في صيغة ميّزت نصه الصحافي، وفسّرت مساحة الحضور التي خلقها في وسائل الإعلام الأجنبية بفضل تمكّنه من لغة إنكليزية سليمة أتاحت له دائماً ليس فقط امتلاك أدوات التعبير، بل أيضاً لغة للحوار مع الآخر بأدواته.
في أغلب حواراته، ظل هيكل شديد الإلحاح على تأثير سنوات التكوين. وعلى الرغم من أنّه لم يكتب سيرة ذاتية بشكل مباشر إخلاصاً لحكمة تعلمها من شارل ديغول تقول «وَيْل مني لمن يقرأون سيرتي بعدي»، يمكن اعتبار كتابه الشهير «بين الصحافة والسياسة» سيرة ذاتية تظهر مهارة انتقاله من السعي وراء الخبر في بدايات عمله كمراسل صحافي متجوّل الى صناعة الخبر، بل صناعة السياسات العامة. مثّل لقاؤه المبكر مع جمال عبد الناصر حدثاً فارقاً في بناء جسور الثقة بين الصحافي والزعيم.
وبعيداً عن التناقض داخل رواية هيكل نفسها عن مكان اللقاء الاول وأسبابه، إلا أنّ نتائجه كانت العنوان العريض الذي رسم المسار المهني للكاتب الذي أضحى عالمياً اعتباراً من الخمسينيات حتى رحيله. بفضل سنوات عمله كمراسل حربي، نجح في بناء شبكة من العلاقات المهنية مع العديد من الصحافيين والمراسلين الأجانب الذين قاد بعضهم مؤسسات إعلامية عالمية فاعلة، واستطاع استثمار هذه الشبكة في بناء الصورة «الذهنية» عن جمال عبد الناصر في مواجهته مع الغرب بعد حرب 1956. تشير رسالة أكاديمية في «جامعة كامبريدج» الى دور هيكل في بناء لغة سياسية تقوم على التصاعد "الكريشندو"، فضلاً عن سمات أسلوبية في بناء خطاب يوازن بدقة بين التاريخ كخلفية لصناعة حدث، والجغرافيا كمسرح له. صيغة طوّرها مراراً في مؤلفاته التي تفرّغ لها تفرّغاً كاملاً بعدما غادر موقعه كرئيس لتحرير "الأهرام" بعد خلافه مع أنور السادات بسبب خطوات انحاز إليها الأخير في إجراء صلح منفرد مع إسرائيل. وفي كتاباته كلها، يصعب الفصل بين خطاب الفرد وخطاب الأمة المهيمن على الايديولوجيا الناصرية التي كان أحد أبرز بناتها.
يصعب على أي مؤرخ أو محلل سياسي للنموذج الناصري وخطاباته تفادي هيكل كشخصية درامية إشكالية، خصوصاً على صعيد العلاقة مع السلطة التي بقي دائماً قريباً منها وناصحاً لها. بقيت أحكامه على السلطة مرتبطة بمدى رفضها أو استجابتها لنصائحه التي كان يقدمها من المطبخ خلال العهد الناصري وأوائل عهد السادات، أو عبر استشارات مباشرة في اللقاءات المهنية التي جمعته بزعماء العالم العربي وملوكه وبعض رؤساء العالم. لقاءات انتقل فيها من الرجل الذي كان يجلس في عقل عبد الناصر، وكبير الطهاة في مطبخه، بتعبير فؤاد مطر، الى «المؤرخ» الذي يعطي للوثيقة الاعتبار الأول في بناء النص التاريخي. وهو اعتبار تنظر إليه المدارس التاريخية المعاصرة بقدر من التشكك، إلا أنّه بقي نموذجاً له جاذبية أسلوبية خاصة جعلت أبناء الستينيات يعتبرون مقاله "بصراحة" الخبز الطازج لتلك الايام. حتى إنّ العديد من الأدباء في مصر يرون فيه "الروائي الذي خسرته الرواية العربية". وكان نجيب محفوظ ذاته يتندر بالقول «لو أن هيكل كتب الرواية، ماكناش أكلنا عيش في البلد دي". ظل سحر السرد أحد مصادر قوته، كما عبّر الكاتب المبدع محمد المخزنجي في أحد حواراته؛ فقد كانت لديه حساسية لغوية لافتة ونبرة سردية موغلة في التشكيل والبناء بشكل يقرب نصه من حدود المعمار الروائي. والأغلب أنّ كتابه الإشكالي «خريف الغضب» الذي يرسم صورة للرئيس أنور السادات مكتوبة من زاوية روائية أكثر من أي شيء آخر، ومقالاته الأخيرة والطويلة في مجلة "وجهات نظر" خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن، خير دليل على قدرته على ابتكار نموذج فريد في كتابة بورتريه سياسي لحدث أو شخص، بلغة متعددة الطبقات لا تكشف بقدر ما تشير، وتحمل قدراً هائلاً من الاستبطان والاستدلال العقلي، من دون أن تغيب عنها "المراوغة البلاغية" المستمدة من قدراته على استعارات نصية مختلفة.
لغة هيكل تحتاج اليوم الى قراءة مختلفة بسبب ما رواه عن مجاهداته معها، وتبقى علاقته بالشعر العربي فارقة في هذا السياق، فقد أكد مراراً أنّ احتفاظه بذاكرة نشطة يعود إلى تدريبات على رواية المعلقات ونماذج شعرية كان يحفظها من الشعر العباسي والأموي خلال لعبة الغولف التي رآها دوماً رياضة تأملية كما اليوغا. يعرّف بعضهم العلاقة الخاصة التي ربطت هيكل بمحمود درويش على سبيل المثال انطلاقاً من بدايات الثاني، إذ سعى هيكل خلال رئاسته لتحرير «الأهرام» الى تأمين إقامة مصرية لدرويش عقب خروجه الأول من الأراضي المحتلة، ودبّر له عملاً ثابتاً في «الأهرام». ظلّ صاحب «جدارية» بالغ الامتنان لهذه التجربة الفريدة التي كانت تعكس تصوراً عن الثقافة والمثقفين انشغل به هيكل طوال فترة عمله في «الأهرام». على الرغم من صراعاته مع المثقفين التي عبّر عن بعضها في كتابه عن «أزمة المثقفين»، ظل تقديره للثقافة طاغياً. خلال رئاسته لتحرير «الأهرام»، سعى لاستقطاب كبار المثقفين والمبدعين للكتابة في الصحيفة، واستبدل نموذج المؤسسة الراعية في الدولة الحديثة بنموذج الأمير الراعي في ثقافة العصور الوسطى. كان دائم القول «المثقفون في «الأهرام» لم يكونوا حلى ذهبية، لكن كان لكل منهم وظيفة ودور لا غنى عنه لمصر».
يكشف تاريخ الأدب في مصر خلال نصف قرن عن قدراته الفريدة في إدارة أزمات النشر التي ارتبطت بما كانت تنشره الأهرام لكبار المبدعين. نشر «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ قبل التحاقه بـ«الأهرام»، وأصرّ على استكمالها رغم غضب الأزهر. كذلك نشر «بنك القلق» لتوفيق الحكيم رغم غضب مؤسسة المخابرات. وكان يستثمر صداقته مع عبد الناصر كي لا يتحول رقيباً على العقول. وكان في بعض الأحيان وسيطاً بين المثقفين والرئيس، كما تشير الكاتبة السويدية مارينا ستاغ في كتابها عن «حدود حرية التعبير» في مصر.
انسيرت:
«مؤرّخ» أعطى للوثيقة الاعتبار الأول في بناء النص التاريخي