القاهرة | ظلّ الرقص الشرقي وثيق الارتباط بذاكرة السينما المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى مرحلة الأفلام التجارية في الثمانينيات.
لهاليبو

نعيمة عاكف (1929 ـ 1966) الفراشة الاستعراضية، نجمة السيرك التي جعلته فضاءً لها. من السيرك أدركت الرقص الشرقي، فمنحتها تلك المعادلة الخفة والاتزان معاً. كانت تجيد الغناء والرقص والتمثيل. تعلمت قفز الحبال، كان جسدها شديد المرونة، أشبه بوتر خائف في الكمان كما يقول محمود درويش.

ولأنها الأنثى التي لم تقبل بأنصاف الحلول، فقد اكتشفها الراحل حسين فوزي وسمّاها «لهاليبو» (1949). طافت نعيمة في الشوارع وقدمت أكروبات ورقصات مميزة أبهرت علي الكسار وبديعة مصابني. طموح نعيمة كان أشبه برياضة التزحلق على الأمواج، فقد تمكنت من التحدث بثلاث لغاتٍ بطلاقة، وقادت فرقة الفنون الشعبية في أوبريت «يا ليل يا عين» للأديب يحيى حقي. انتهت حياة عاكف كفراشةٍ تهذي في جلد ثعبان. أدركها السرطان وتُوفيت عن 37 سنة.


القديسة توحة

لم تكن الرحلة بهذه البساطة. أرادت أنها تؤسس للجسد في مراحله المختلفة. الجسد هو كونٌ مصغرٌ عليك أن تدرك أبعاده. أرادت تحية كاريوكا (1919 ـ 1999) أن تكون كل رقصة لها بمثابة تظليل لمرحلة جديدة من الفن. لكن هذا التأسيس كان ينبغي له التمرد وعدم الخضوع. لم تأبه كاريوكا لنصائح بديعة مصابني، لم ترَ في كينونتها مجرد راقصة، كانت ترددُ أنا فنانة شاملة. كانت المغامرة الكبرى ربما أن تتحدى السلطانة. كانت كاريوكا تحاول باستمرار أن تنسج دائرتها الخاصة. دائرة لن يتمكن من حبكها سوى نحّات يعرفُ كيف تثقل الكتف وكيف تتزن حركة الأرداف. معادلة أشبه بقواعد «الاستاطيقا» فكل عنصر لا يجب أن يجور على حق خليله. مع عزيز عثمان، حفرت الأرض بدقات أقدامها في لحن مبهج تغلفه خفة الظلّ. يشدو عزيز «تحت الشباك ولمحتك ياجدع خدك تفاح دوقني يا جدع رمشك دباح حوشه عني يا جدع». كاريوكا هي تفاحة الغواية، كل قضمة تكفي لتؤسس لمرحلة جسد جديدة. كانت تحية (لعبة) تؤرخ من دون أن تدري لرقص العوالم. في خلفية الرقصة كانت تصدح ماري منيب: «ما تهزي يا بت»، ليتابع عبد الفتاح القصري «لعبي وسط شوية». الجملتان تضعان ببساطة شرطي الرقصة: الهزّ والوسط. نجيب الريحاني كان يرى في جسد كاريوكا «قارة مجهولة» لا يمكنك أن تدرك بسهولة أبعاده وتفاصيله. جسد يشعُ ما يكفي من النور لإضاءة قارة غير مأهولة. جسد ملكي له بريقه وجلاله الخاص. كان فيلم «لعبة الست» مع الريحاني (1946) أيقونة كاريوكا السينمائية والتجربة التي لا تُمحى من الذاكرة. ثم جاءت المرحلة التي أظهرت فيها كاريوكا سطوة الأنثى واكتمال الجسد في فيلم «شباب امرأة» مع الراحل شكري سرحان. كانت كاريوكا في محاولات مستمرة، ترقص وترفض خنوع الجسد. فالجسد الذي بدأت أزهاره تتساقط أدى رقصاته الأخيرة الأشبه بالجنائزية على أنغام شفيق جلال في «خلي بالك من زوزو».

ملكة التابلوهات

كانت الرقصة الأولى لهما في أغنية «حبيبي الأسمر» من ألحان محمد عبد الوهاب. عندها كانت كاريوكا تقول عن سامية جمال (1924 ـ 1994) «طلتها حلوة بس مش بترقص أوي». جمال هي مساحة أخرى في حلقة الرقص الشرقي في السينما المصرية. المرجانة التي تلمعُ في أعماق البحر. لكن هذه الراقصة التي أرادت السير على الماء، لم ترَ في الحذاء سوى قيد غير معلن لرقصتها الجديدة، تخلصت منه فوراً وانطلقت فوق مكعبات الرخام في كازينو بديعة مصابني، حتى أُطلق عليها لقب الراقصة الحافية. كانت لديها طاقة كامنة تريدُ تحريرها كأنها ترغب في تأسيس رقصة ما بعد حداثية تخرج عن المألوف والمعهود. كان التشابك قائماً بين السياسي والفني. وفي تلك اللحظة عام 1949 منحها الملك فارق لقب راقصة مصر. بدأت سامية جمال من دانتيلا السينما مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في فيلم «ممنوع الحب» (1942). ثم انطلقت شهرتها في سائر الأقطار العربية بعد فيلمها «حبيب العمر» (1947) مع فريد الأطرش. كانت شديدة الثقة برقصها حتى صرّحت مرة «أستطيع الرقص حتى على نشرة الأخبار».