القاهرة | لم يتفقوا حول أي شيء آخر، فلماذا سيختلف الحال إزاء الرقص الشرقي؟ قد يشير ضمير الغائب هنا إلى المصريين، ربما العرب، ربما بدائرة أوسع «الشرقيين» طالما أنّه رقص «شرقي». لكنه ـ ذلك الرقص ـ لم يرتقِ إلى صخبه و»قيمته» وجدله، إلا مع السينما المصرية. وضعت «أسطوات» مثل تحية كاريوكا، وسامية جمال رقصهن ــ والرقص كله ـ في مكان آخر. كان هذا أوان تتعرّف فيه مصر «الليبرالية» أولاً ثم «الجمهورية» على نفسها بعدسات السينما ثم بشعارات التقدم، فكان أن وُضِع التراث الشعبي كله موضع الفخر تارة، و»الرعاية» الرسمية تارات.
تبنت الدولة الفنون الشعبية وراقصيها، وأقامت قصور الثقافة لأدبائها وفنانيها، ولم تمسّ عالم الرقص الشرقي. لكنه ازدهر مع ازدهار الجميع، ثم انتكس بالنكسة مع الجميع، وكما كفر كثير آنذاك ـ وللأبد- بالتقدم وبالعروبة، ارتد الرقص الشرقي على «رقيّه» وطموحاته، وانحصر في كباريهات السبعينيات بزبائنها الانفتاحيين والنفطيين.
وسرعان ما اختفت راقصة سينما الخمسينيات التي «ترقص بشرفها»، وتحولت العبارة نفسها إلى سخرية في سينما العقود اللاحقة. لم تعد سامية جمال أو نعيمة عاكف تحظى بإعجاب البطل وحبه، بل صارت «بنتك هاترقص في الكباريهات يا رمضان» (العيال كبرت) شعار المرحلة.
وفي الآن نفسه، أوان الصحوة الإٍسلامية، لم يعد جلب أو عدم جلب راقصة للأعراس أمراً يتعلق بالقدرة المادية. صار غياب الراقصة وفرقتها الأمر المحوري في ما أطلق عليه «العرس الإسلامي». ذلك أن الخصائص الأخرى، كالعزل بين الذكور والإناث كانت تقاليد ريفية أساساً، وليست ذات منشأ وهابي أو جهادي خاص. لكن حتى في هذا الريف والمناطق الشعبية، كان حضور «الراقصة» أو «الغازية –العالمة» أمراً محورياً، حتى تخلّص العرس الإسلامي من هذه «الخطيئة». لقد بدت الراقصة عدوة للإسلاميين، إلى حد أنهم لم يشملوها حتى بحملة استتابة وتحجيب الممثلات التي استمرت ما يقارب ثلاثة عقود. لقد بدت الراقصة بقوتها وصلابتها - في عالم الآلاتية والكباريهات الشرس- صعبة المنال، وبدت أسماء مثل فيفي عبده ونجوى فؤاد بعيدة من مصائد الإسلاميين. معظم نماذجهن –وقد صارت قلة- أتت من قاع اجتماعي صعدن منه سلماً صعباً، عكس كثير من ممثلات أنجبتهن الطبقة الوسطى، فسرعان ما استسلمن عائدات إلى قواعد «أخلاقياتها».
لم يستهدف الإسلاميون - بهدايتهم - فيفي عبده ودينا، لكن «الصحوة الدينية» جففت المنابع من أسفل، وأتاحت الفرصة للروسيات والأوكرانيات وسواهن في ملاعب المصريات. ولا عجب، فمن أين «تنشأ» راقصة في مجتمع تحجبت الغالبية الكاسحة من بناته؟ بنات يرقصن بامتياز لكن من دون «احتراف». لقد صار البنطلون نفسه حراماً أو مكروهاً، فما حال بذلة الرقص؟
ولأنها ـ بذلة الرقص ـ تكشف البطن، فقد أرجعت المصادر أصولها إلى الهند. إلا أن الرقص الهندي أخذته بوليوود إلى مجاميعه الاستعراضية سريعة الحركة. أما التثنّي الفردي المتمهّل وهزّ الوسط و»الرعشة» وغيرها من مهارات «العوالم»، فقد انحصرت شهرتها بين تركيا ومصر، واستقرت في الأخيرة على يد كاريوكا وجمال وزينات وغيرهن من النجمات. إلا أنّه ظل رقصاً يسمى «شرقياً»، ولم يسمَّ «الرقص المصري» قطّ أو العربي، على غرار الفيلم المصري أو العربي، أو الأغنية المصرية أو الأدب. وحده الرقص ــ وهو في كل ساحة مصرية وصولاً إلى طوابير الانتخاب- ظل يسمّى «شرقياً» فحسب، كأنما أتى من بعيد وظل كذلك، كأن في الأمر نوعاً من التنصلّ.
تنصّل أورثه الخلاف الذي صار سؤالاً صحافياً مكروراً: هل الرقص الشرقي فن راق، أم مجرد إثارة للغرائز؟ هو سؤال فرضه ظهور «الراقيات» مثل كاريوكا وأخواتها. كن يفخرن أنهن حوّلن الرقص الشرقي إلى فنّ، قبل أن «يرتد على أيدي نجمات الكباريهات». أياً كان، فإن السؤال الأصلي ليس هنا، إنه في كل هذا التشدد والحرمانية والتهرب والتعقيد... في مسألة تمُارس كل يوم، وتمارسها كل الشعوب على طريقتها، إنه بالأساس، في هذا الفصل الأصولي الصارم، بين «الرقي» والغريزة.