لا تعدم المحطات التلفزيونية اللبنانية حيلةً في إقناع المُشاهِد بأنّ ما تبثه من برامج (مسلسلات، منوعات، أخبار، توك شو، حواريات في السياسة والدين والمجتمع والاقتصاد...) هو أقصى ما يمكن لأي وسيلة مرئية أن تقدمه له إمتاعاً وفائدة، فيما ينقص المشهد الحقيقي لعلاقة ناجحة بين معظم الميديا والناس أن ننقل الحديث إلى مكان آخر.

ما قبل الحرب الأهلية، كان «تلفزيون لبنان» الشاشة الرائدة محلياً وعربياً في تضمين دورات برامجه وقفات ومحطات ثقافية وفنية لم تغادر المسرح بتاتاً، في متابعة إعلامية حثيثة لكل جديد يقدمه الأخير. كان يعيد عرضه على الشاشة الصغيرة فور انتهاء مواسمه على الخشبات، برؤى مستنيرة وحضارية للإدارات التي لا نعلم أسماءها، وقد قادت تلك المحطة العريقة في تلك المرحلة، وأثبتت حرصها حقّاً على تعميق ثقافة المسرح ورسالته الاجتماعية والوطنية.
اليوم تغير المشهد بالكامل رغم انتشار المحطات المرئية التي تبثّ أرضياً وفضائياً، فلم نعد نعثر على محطة تلفزيونية تقدم عرضاً مسرحياً واحداً مما انتهى عرضه حديثاً في بيروت والمناطق، مع الإشارة إلى أن الطموح طبعاً أعمق وأوسع من عرض أسبوعي على الشاشة الصغيرة، كأَنْ تُخصّص مثلاً ساعة واحدة فقط، وشهرياً، نعم شهرياً، تتناول أهم وآخر أخبار أهل المسرح وصانعيه نشاطاً ومشاريع. لكن يبدو أن كل ذلك بعيد من اهتمام أهل الحلّ والعقد في إعلامنا المرئي. الأعمال المسرحية اليوم شغّالة على مدار العام وإن بوتيرة متفاوتة بسبب الأوضاع الصعبة التي نعيشها، فما المانع من إعادة عرضها على الشاشات الصغيرة فور خروجها من الصالات؟ مع العلم أنها كلها مسجّلة بتقنيات عالية من قبل منتجيها وعلى نفقتهم وجاهزة للعرض، ولا تحتاج إلا إلى قرار ثقافي شجاع يؤكد فعلاً صدقية المحطات التي ترفع شعارات الثقافة والارتقاء بالمجتمع والإنسان في بلد الإشعاع والنور كما كان دائماً. نحن ننادي بعروض اليوم لأنها تشكل مادة دسمة تغني أرشيف التلفزة المحلية تأريخاً وحفظاً، عطفاً على مواكبة المسرح اللبناني الذي يحمل للمناسبة أفكاراً إشكالية معمقة بمعظمه، تناقش أزمات اجتماعية وسياسية بل اقتصادية أيضاً، وتخاطب الجميع بلغة حرة وصادقة، بعيداً من شعبويّة الأحزاب والتيارات ودَجَل زعمائها. تحاول النهوض بقضايا ابن البلد إلى ما يؤمن له حياة أفضل في كرامة العيش والنفس وحرية التفكير والقول والمعتقد، ما يُفترض أنه رسالة الإعلام المرئي.
هذه المسألة تحمل من وجه آخر بعداً تشجيعياً لرسالة المسرح الأخلاقية، في مواجهة برامج تلفزيون الواقع أو المنوعات التي تتنافس في تسطيح كينونة الإنسان ومبادئه، وتجعل منه سلعة في الحضور شكلاً ومضموناً، والأمثلة كثيرة. إحدى المحطات تعكف على الإتيان بنساء لا همّ لهنّ إلا مشكلاتهنّ الجنسية مع رجالهن: فواحدة تعاني من زوجها «الفحل» الذي يريدها كل ليلة، وأخرى بعكسها تتباهى بأنها تلبي رغباته، وثالثة لا يستحمّ زوّجها إلا بين يديها، إلى رجل آخر مزواج مطلاق كأنه شهريار زمانه وتطول اللائحة في هذا الحيّز مع ضبابية الهدف الذي استُحضر هؤلاء من أجله.
استضافة عائلة فقيرة وإظهار حياتها البائسة حتى حدود شعور المشاهد نفسه بالإهانة


محطة تلفزيونية أخرى تعمد تحت شعار المساعدة الاجتماعية، إلى استضافة عائلة فقيرة وإظهار تفاصيل حياتها اليومية البائسة في السكن والمأكل والملبس حتى حدود شعور المشاهد نفسه بالإهانة مما يرى، قبل أن تأتي المذيعة العتيدة، المخلّصة التي ستنقذ هذه العائلة مما هي فيه، مع ما يصرخ به شكلها من تفاوت طبقي مع ضيوفها في اللباس والماكياج وزينة الشعر والبوتوكس واللغو ببضع مفردات فرنسية وإنكليزية لزوم عدّة الشّغل، في موقف «تربيح جميلة» فاقع ومعيب لا يتناسب قطعاً وفعل الخير الذي مكانه الصحيح في مكان بعيد حتماً من ضوضاء ورياء الإعلام والإعلان على الشاشة أمام جمهور عريض. برنامج تلفزيوني آخر يحدثنا عن وحدة تحقيقات واستقصاء، يدخل حياة وأسرار الناس الخاصة بكاميرا التلفزيون المحمولة أو بالتسجيلات الهاتفية صوتاً وصورة، تحمل طابع التجسّس على خصوصياتهم وأخبارهم ليذيعها على الملأ تحت شعار «محاربة الفساد» ليطرح السؤال نفسه ولو صدقت النوايا: أليست هذه مهمة أجهزة الرقابة في مختلف وزارات الدولة؟ هل يمكن لأيّ مواطن أن يفتح على حسابه وينشئ «وحدة تحقيقات» تتقصّى أخبار البلاد وأفعال العباد استنسابياً وبخلفياتٍ ونوايا لا نعلم أهدافها، وقد تهيّج قوماً على قوم في هذا البلد المنقسم عمودياً في كل شيء؟ أما الطّامة الكبرى فهي اجتماع كل تلك المحطات حول بث البرامج السياسية من حوارات وتقارير ومقابلات وأخبار تصبّ الزيت على النار بين اللبنانيين اجتماعياً وطائفياً، تستفزهم وتنشر أضاليل التحليلات المضرة بالبلد وواقعه ومستقبله حتى أصبح الكل محللاً سياسياً، وتظهر أن لبنان هو بؤرة الانقسام والتخلّف والمذهبية البغيضة وأنه لا يصلح وطناً لأبنائه. وبعد، فإنّ الدعوة للاهتمام بالمسرح كوجه مديني وطني ريادي هي دعوة مفتوحةٌ أيضاً للعناية بكل أجناس المعارف والعلوم والآداب التي ترسم مناخاً ثقافياً للبنان، وهي وجه من وجوه تصحيح وأقلّه التصويب على ما تقترفه محطات التلفزة المحلية من أخطاء، علمتْ أمْ لم تعلم، ما يضرب المبادئ الرسالية لنهوض الوطن، وقد يأخذه إلى مكان آخر يغدو فيه مجتمعاً متوحشاً، متنافراً بكل ما في الكلمة من معنى، فلِمَصلحةِ مَنْ هذا النهج الإعلامي؟