يمكن الحديث مطوّلاً عن مسلسل «سرّه الباتع» (إنتاج شركة «سينيرجي») للمخرج المصري خالد يوسف والمأخوذ عن قصة قصيرة بالعنوان نفسه للكاتب المعروف يوسف إدريس نشرها في مجموعته «حادثة شرف» عام 1958. يتناول العمل مرحلةً تاريخية مهمةً حين جاء الإمبراطور الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت إلى مصر في حملته الشهيرة محاولاً احتلال العالم، ووقوع معركة إمبابة الشهيرة (21 يوليو 1798) التي تغلّب فيها على المماليك وكان له حكم مصر. كانت تلك الحملة الأولى على العالم العربي منذ الحروب الصليبية. حكت أعمالٌ أدبية وتلفزيونية وسينمائية كثيرة عن تلك المرحلة: من فيلم يوسف شاهين ـ مدرب خالد يوسف الأثير ـــ «وداعاً بونابرت» (1985، كتابة يوسف شاهين ويسري نصرالله)، مروراً بمسلسلات مثل «الأبطال» (1996، كتابة سامي غنيم وإخراج حسام الدين مصطفى)، و«نابليون والمحروسة» (2012 كتابة عزّة شلبي وإخراج شوقي الماجري)، ومسلسل «المصراوية» (2007) رائعة أسامة أنور عكاشة، وصولاً إلى روايات مثل «يعقوب» لمحمد عفيفي، و«غيوم فرنسية» لضحى عاصي، و«غادة رشيد» لعلي الجارم، و«الأزبكية» لناصر عراق.


يأتي «سرّه الباتع» بمثابة إعادة اعتبار إلى مقاومة تلك المرحلة في مواجهة احتلال بدا أنه آتٍ لتطوير «الشعب المصري المتخلّف» وفق ما قال مؤرخ الحملة كليمونت في المسلسل (يؤدي دوره حسين فهمي). شأن معظم أعمال خالد يوسف، يضم العمل كوكبةً من النجوم المعروفين، وهو يُعدّ جزءاً من تركة يوسف شاهين الفنية التي تخوض في قضايا تاريخية وتطرح أسئلةً كبيرة، لا تجيب عنها في غالب الأحيان.
يروي المسلسل حكاية «السلطان حامد» (أحمد صلاح السعدني) الولي الصالح، والرجل المبروك الذي له مزار ومقام في عددٍ كبير من القرى المصرية من دون قبر، إذ تروي الحكاية أنّ جثمانه مخفي عن الفرنسيين الذين قاومهم. يفتتن الطفل حامد (أنس الجمّال) منذ صغره بهذه الشخصية، فتصبح أشبه بالمريد له: إذ يتحدّث حامد معه، يطلب منه المساعدة في الأمور المعقّدة. وللمفارقة بحسب القصّة، فإن السلطان يحقّق له ما يريده. حامد الذي يصبح شاباً (أحمد فهمي) يدخل مرة إلى «مزار» السلطان، ليراه محفوراً أسفله. هنا يجد رسالةً كتبها مؤرخ الحملة الفرنسية كليمونت (شخصية غير حقيقية)، تروي حكاية «السلطان حامد» بصفته مريداً له، وليس مجرّد مؤرخ. يدخل حامد إلى مرحلة البحث عن تاريخ السلطان بمساعدة سارة (ريم مصطفى) والخبير في الآثار يوسف إسكندر (محمود قابيل). في الإطار عينه، هناك عصابات من لصوص الآثار يبحثون عن الكنز المدفون في أحد مقامات السلطان حامد. يقود هؤلاء اللصوص مسعود العمروسي (عمرو عبدالجليل) وأبو العزم (أحمد وفيق)، ولونا (رانيا التومي). تعود القصة لتظهر نابليون بونابرت (أيمن الشيوي) الذي يدخل مصر، ويترك مكانه قائده بيلون (نضال نجم) ليحكم مصر. عندها يواجههم حامد الذي لم يكن «سلطاناً» ولم يمتلك «قيمته الدينية الشعبية» التي امتلكها لاحقاً. نعرف حكاية القرية وعمدتها الشيخ سليم (خالد الصاوي) وابنته صافية (حنان مطاوع) التي يحبها السلطان حامد. سرعان ما تتعقّد الأمور على الجانبين: السلطان حامد يقع في مواجهة دموية مع الفرنسيين وجنرالهم بيلون، وحامد يقع في مواجهة مع لصوص الآثار والعمروسي في قيادتهم.


إحدى نقاط المسلسل القوية هو الكاست الكبير والموهوب، حتى إنّ بعضهم أشار إلى أنه «مؤتمر» للممثلين، لا مسلسل فحسب: أن يجمع خالد يوسف نجوم مراحل كثيرة من الفن المصري في عمل واحد هو إنجاز كبير. جمع نجم «خللي بالك من زوزو» (1972، كتابة صلاح جاهين وإخراج حسين الإمام) وسبعينيات القرن الماضي، حسين فهمي مع نجم الثمانينيات/ التسعينيات التلفزيوني أحمد عبدالعزيز، مع النجم القادم، الماهر والموهوب أحمد فهمي، هو بالتأكيد أكثر من رائع، فما بالك إذا أضفنا إليهم نجم السنوات الأخيرة كالقدير خالد الصاوي، ومحمود قابيل، وحنان مطاوع وهالة صدقي التي أدت واحداً من أقوى أدوارها هذا العام على الرغم من صغره. ساد انسجام كبير بين هذا الكم الهائل من النجوم الماهرين، مع سيطرة المخرج عليهم بمهارة عالية، ما جعلهم يؤدون بطريقة تلقائية جميلة. الأمر نفسه ينسحب على قصّة العمل التي يشعر المشاهد بأنه أمام جو مثالي لناحية الانسيابية العالية، حتى بين الزمنين المحكي عنهما. في الإطار عينه، اهتم خالد يوسف بتفاصيل العمل، فشهدنا بيوت فلاحين تزدان بأدوات وأثاث مناسب لتلك المرحلة، فضلاً عن الثياب المناسبة. نقطة أخرى من مميزات المسلسل هي الموسيقى التصويرية التي ألّفها راجح داوود، أحد أهم أساتذة الموسيقى في مصر، فضلاً عن أهم صنّاع الموسيقى التصويرية كما فعل في فيلم «أرض الخوف»، و«مواطن ومخبر وحرامي»، و«مذكرات مراهقة» وسواها. أما أغنية تتر البداية، فقد أداها «الكينغ» محمد منير، ما أضفى ميزة خاصة على العمل.
تعرّض «سرّه الباتع» للكثيرٍ من الانتقادات بسبب الأخطاء التاريخية التي وقع فيها


على جانبٍ آخر، تعرّض العمل للكثيرٍ من الانتقادات بسبب الأخطاء التاريخية كالشخصيات التي رافقت الحملة، أو مكان مقر الجنرال بيلون أو حتى صراعه مع القرية والسلطان «حامد»، وهذا أمرٌ متوقّع من تلميذ يوسف شاهين. فالمخرج المصري اللبناني الأصل، علّم خالد يوسف كيف يتعامل مع القضايا التاريخية على طريقته الخاصة، كيف يعيد تشكيل التاريخ الذي يريد حكيه كما يحب. مثلاً لم يكن ابن رشد يحبّ الرقص والغناء وسواه كما صوّره فيلم «المصير» (1997) ليوسف شاهين، وقس على ذلك. هنا يحاول يوسف أن يشكّل تاريخ مصر بمقاومة المحتل الفرنسي كما يحبّ لا كما هي الحقيقة الدقيقة، فتبدو القرية المصرية وادعةً وفرحة بعيداً عن متخيلها المعتاد لناحية الفقر والظلم الذي تعرّض له الصعيد وقراه. حضور الفرنسي المحتل، كان كما المحتل المملوكي قبله، مرفوض من الشعب المصري، وقد ظهر في العمل بطريقة منطقية. كذلك، برزت أخطاء تقنية في العمل كمشهد انتعال أحد الجنود الفرنسيين القتلى حذاءً رياضياً من ماركة شهيرة، أو نطق بعض الجنود الفرنسيين جملاً لا ينطقها إلا المصريون. الأمر نفسه ينطبق على اللهجة المصرية المستخدمة في العمل، إذ أشار مؤرخون مصريون إلى أنها لا تناسب تلك المرحلة الزمنية. أما الخطأ الأبرز فكان بعد استشهاد أحد أبطال العمل، والتظاهرة التي تلته، إذ بدت كما لو أنها تظاهرة حديثة من خلال الهتافات المنمّقة التي ذكّرت بثورة 25 يناير 2011، لا تظاهرة عفوية بدايات القرن الماضي نفذها فلاحون معظمهم أمّيون. هذه الأخطاء أثرت سلباً على متابعي العمل، لكنها لم تؤثّر على حبكته أو صورته النهائية التي وصلت إلى المشاهد.
مسلسلٌ قوي، جميل، يحاول مخرجه أن يكمل مسيرته التي افتتحها مع فيلم «هي فوضى» (2007- كتابة ناصر عبدالرحمن)، هذه المرّة مع عمل ربما هو الأقوى هذا العام، لا في الدراما المصرية فحسب، بل في الدراما العربية أيضاً.

■ «سرّه الباتع» على منصة Watch it
■ يومياً ــ الساعة الثامنة والنصف مساءً بتوقيت بيروت على قنوات ON
■ الواحدة بعد منتصف الليل على «الحياة»