تجول السيارة نحو الحادية عشرة ليلاً في مخيّم الرمل الفلسطيني في اللاذقية المكلومة كحال العديد من المدن السورية! لا معالم تشي بالحياة هنا. عدد كبير من السكّان غادروا بيوتهم خوفاً من تصدّعها نحو مناطق أكثر أماناً من وجهة نظرهم، بينما يبحث متطوّعو المجتمع المدني عن سبل لتأمين مياه صالحة للشرب بسبب تلوّث الماء في المخيّم حسبما يقولون. ويضيفون أنّ محاولات الإنقاذ الأولى كانت بأظافر الناس ممن حالفهم الحظ وبقيت مبانيهم واقفة! نصادف عائلة عادت على جناح السرعة بعد إبلاغها بأنّ عمليات سرقة تحدث في المخيّم. هناك من هو مستعّد لأن يقتات حتى من بقايا المصيبة المهولة! فعلياً تمّ انتشال غالبية الجثث التي كانت تحت الأنقاض بحسب التصريحات الرسمية السورية، كما لم تعد هناك فرصة لناجين بعد أيّام طويلة على الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا وسوريا فجر السادس من شباط (فبراير) الحالي. المبنى الأكثر تضرراً في المخيّم هو «بناء رنّو» الذي يحمل اسم العائلة التي كانت تقطنه وانتقلت في غالبيتها إلى السماء! كأنّ قدر الفلسطيني أن يعايش فوق تغريبته، حرائق اليوميات السورية المتلفة، ثم سيجرّب أشكالاً جديدة من الموت. جنى رنّو وشقيقها نجيا بشبه معجزة إلهية. عُثر على الفتاة بعد قرابة ثلاثة أيّام من الكارثة. كانت تقبع في مشفى حكومي، ثم نُقلت إلى آخر خاص. نقتفي أثر الصبية العشرينية، فنعثر عليها محاطة بمحبّيها. من البديهي أنّها لا تزال تحت الصدمة حتى الآن، لكنّها توّد مقابلة الإعلام علّها توصل صوتها لكلّ العالم. تروي في حديثها مع «الأخبار» لحظات ما قبل الكارثة، فتقول إنّها كانت برفقة والدتها في بيت أختها الذي يجانب منزلهما. لم يستغرق الأمر أكثر من ثوان حتى بدأ البيت بالانهيار. احتضنت شقيقتها طفليها فيما ارتمت والدتها فوقها لتحميها من السقف الذي تداعى فوراً وراح البناء نحو السقوط: «افتدني أمّي مرّتين، الأولى عندما حمتني من الأنقاض التي انهارت عليها بدلاً مني، بينما احتضنت أختي طفليها وماتوا معاً فوراً لأنّني لم أعد أسمع أصواتهم. في البداية، كنت أسمع بكاء طفلها ثم اختفى فعرفت أنّه توفي. بينما ظلّت والدتي لساعات طويلة تحتضنني وتطلب منّي الصمود قبل أن تلفظ أنفساها الأخيرة وهي تترضى عليّ. كنت أسمع في البداية أصوات جيراننا ثم راحت نحو التلاشي الأخير واحداً تلو الآخر». تجرّب جنى التماسك واستعادة معالم هذا الهول المفجع وتعود للحديث بعد برهة قصيرة فتقول: «لا أعرف كيف قاومت البرد حتى أنّني نمت في اليوم الأوّل. وعندما صحوت كنت قد على وشك الموت من العطش، ربمّا لن يصدق أحد أنّ الطبيعة خلقت لي فسحة نجاة بعدما كادت أن تجهز عليّ. اشتدّت العاصفة وراح الهواء يدخل بين الأنقاض فقلت لنفسي: لم يقتلني الزلزال فهل سأموت من العطش؟ هنا، كأنّ السماء استجابت في اللحظة الأخيرة ونزل مطر غزير حتى تبلّلت ثياب أمي. كأنّ المطر أراد أن يكون حبل نجاة. عصرت ثياب والدتي بعد أن تبللت في فمي حتى أشرب، وبالفعل تمكّنت من ارتشاف قطرات ماء ساعدتني على البقاء على قيد الحياة، واعتقدت أنها إشارة قدرية تشير لإمكانية نجاتي. وكانت هذه المرة الثانية التي تفتديني بها والدتي». تشرح جنّى رنّو بمنتهى الجرأة الممزوجة بالصدق والثبات، ثم تضيف: «لكن في اليوم الثالث فقدت الأمل كلياً، خصوصاً أنّني بت أسمع جيداً عمليات الحفر فوقي، كنت أعتقد أن ما يعلوني سقف واحد، لكن الحقيقة أنّ البناء كاملاً كان قد تراكم فوقي، وشعرت بأنّ الردم سيقتلني لاسيّما أنّ الحفر صار فوقي مباشرة. ثلاثة أيّام لم ألمح فيها الضوء وفجأة فتحت طاقة صغيرة فحرّكت يدي دون قدرة على فتح عيني بشكل كامل، لتنتبه فرق الإنقاذ ويتمّ انتشالي. صحيح أنّ من له عمر لا تقتله شدّة».
يعلّق أحد جيران جنى على قصّتها فيقول: «كنت أسمع صوت والدتها، في اليوم الأوّل وهي تستغيث، صرخت بأعلى صوت، وطلبت منها التماسك حتى تصل فرق الإنقاذ. تسمرّت في مكاني بمنتهى العجز، لكن في اليوم الثاني اختفى صوت الأم فعرفت أنّها فارقت الحياة».
ونحن نكمل هذه السطور، سيهرع سكّان دمشق وجبلة واللاذقية وحلب وغيرها نحو الشوارع والحدائق والساحات العامة والسيارات... الأرض تزلزل وهذه المرّة بقوة 6.3 درجات في تركيا وقد وصلت ارتداداتها إلى الشام. أحد سكّان حلب يترك تعليقاً ربّما يكون الأبلغ عن حال السوريين هذه الأيّام: «نحمد الله لأنّ الطقس أقل برودة من يوم 6 شباط، لذا يمكننا أن نمضي ليلتنا في الشارع».