شهدت منصّة نتفليكس أخيراً عودة المسلسل الأميركي «إميلي في باريس» بموسم ثالث، بعدما حقّق الموسمان السابقان نجاحاً كبيراً، رغم بعض الانتقادات التي رافقتهما. فالمسلسل كان قد تعرّض لحملات رافضة له إبان عرض موسمه الأوّل عام 2020 نظراً إلى ما اعتبره بعض الفرنسيّين تنميطاً لهم وتعميم عادات بشعة عليهم جميعاً، ثمّ ما لبث أن جوبه بالاستنكار من مسؤولين أوكرانيين لتصويره شخصية «بترا» الأوكرانية على أنّها سارقة في الموسم الثاني. لكنّ ردّ القائمين على العمل كان في الحالتَين بأنّ الأميركيّين يتعرّضون للكمّ نفسه من السخرية في المسلسل، وهو أمر يمكن ملاحظته حقاً عند المشاهدة. على أيّ حال، حقّق «إميلي في باريس» نسبة مشاهدة قياسية، ويبدو أنّ الموسم الجديد على خطى سابقَيه.تستكمل إميلي كوبر (ليلي كولينز) الآتية من مدينة شيكاغو الأميركية «مغامراتها» في العاصمة الفرنسية، حيث لا تزال تحاول التأقلم والاندماج في المدينة التي هبطت فيها بحكم عملها في مجال الإعلان والتسويق. لكنّ «إميلي» الموسم الثالث، تطوّرت عن إميلي الموسم الأوّل، فأصبحت أكثر تعلّقاً بباريس وإلماماً بلغتها واختلاطاً بناسها، ولو أنّ شخصيّتها لم تتغيّر كثيراً. فهي لا تزال تلك الشابة المفعمة بالنشاط، المحبّة للحياة، الشغوفة بعملها، المبدعة في أفكارها، الضائعة في حياتها العاطفية. صفات إميلي الآنفة، معطوفة على الظروف الخارجية المحيطة بها، تجلب لها المشكلات وتضعها في مواقف حرجة لكنّها أيضاً تمنحها مساحة لإثبات ذاتها كما لإمضاء أوقات ممتعة. لكنّ المعضلة التي تطبع الموسم بأكمله تكمن في معاناة إميلي من متلازمة التنافر المعرفي (cognitive dissonance)، وهي حالة نفسية تتّسم بالضياع وعدم الارتياح عندما يتعلّق الأمر بضرورة الارتكاز على خَيار بين اثنين أو أكثر. هكذا، تروح تدور في حلقات مفرغة في حياتها المهنية والعاطفية والاجتماعية قبل أن تدرك ما الذي تريده فعلاً. حياتها المهنية مثلاً، تصطدم بطموحات سيلفي (فيليبين ليروا بيليو)، أمّا حياتها العاطفية فتضيع بوصلتها بين آلفي (لوسيان لافيسكونت) وغابريال (لوكاس برافو) وحتى غيرهما، فيما تشهد حياتها الاجتماعية مروحة واسعة من الأحداث تكون بطلتها بشكل خاصّ صديقتها المقرّبة ميندي (آشلي بارك) بالإضافة إلى كاميل (كاميل رازات).
لا يركّز «إميلي في باريس» على البطلة فقط، بل يذهب نحو إعطاء كلّ شخصية رونقها كما مجالها للبروز، مازجاً بين الوصلات الدرامية والنهفات الكوميدية؛ إذ كلّ شخصية لديها الصفة الكوميدية الخاصّة بها. هناك عامل جذب إضافيّ يتمثّل في الفنون على أنواعها، من الغناء بشكل خاصّ إلى الرسم والموضة والرقص، ما يضفي «الأجواء الباريسية» على العمل. كذلك، يعيدنا الموسم الثالث إلى الريف الفرنسي، مع إضافات مميّزة هذه المرّة. لكن ما اعتمده المسلسل سابقاً من تجميل للصورة أبعده عن الواقعية، لم يتغيّر في موسمه الجديد، لا بل ازداد «مثاليةً»، خصوصاً من حيث تصوير باريس كما يراها الأميركيون، رغم محاولة إعادة التوازن عن طريق بعض التعليقات الساخرة في الحوار هنا وهناك.
يمزج بين الوصلات الدرامية والنهفات الكوميدية

يقول منتج المسلسل التنفيذي دارن ستار إنّه يتعمّد إعطاء هذه الصورة لأنّها بمثابة متنفّس بعيد من العالم الحقيقي؛ فأعماله السابقة اتّخذت منحى مشابهاً، وبات المشاهدون يتوقّعون منه هذا النوع من الإنتاج. لكنّ المعضلة ليست في هذه المقاربة بحدّ ذاتها، بل في المبالغة بها في الموسم الجديد إلى حدّ بات المسلسل يشبه «لا لا لاند»! فبضع كلمات في الحوار لا يمكنها إلغاء المبالغة المذكورة، ولا أحداث «مفاجئة» تأتي متأخرة كأنّ الكتّاب أفاقوا فجأة لـ«مثالية» القصّة ولا واقعيتها بعدما كانوا قد كتبوها وانتهوا منها. والقصّة بدورها بدت أقلّ قدرةً على تقديم شيء جديد مقارنةً بالموسمَين السابقَين. يجب ضبط إيقاع المسلسل بطريقة لا يبدو فيها كأنّ هناك عاملاً واحداً تمّ إتقانه فيما أُهمِلت العوامل الأخرى (مهما كانت متقنة هي الأخرى).
على أيّ حال، ما تقدّم من مبالغة في «روح» المسلسل لا يعني أنّه ليس لتقنية «التجميل» إيجابيات. إذ إنّ هذه المقاربة هي ما يعطي «إميلي في باريس» زخمه وصورته الفريدة، كما أنّها تجعله مرحاً، بعيداً من الجدّية التي غالباً ما تطبع الأعمال المشابهة. بذلك تصبح مشاهدة الموسم الثالث من المسلسل أكثر سهولة، يمكن الانتهاء منها خلال أيام معدودة. قد لا يمتلك «إميلي في باريس» السيناريو الأذكى، لكنّه فعلاً يستحقّ المشاهدة كأيّ مسلسل فيه سيناريو ذكيّ، إذ حتى لو لم يتحمّس المُشاهد كثيراً لقصّته، إلّا أنّه سيستمتع بالتأكيد بمشاهد المدينة والريف، وحتى النكات والموسيقى وأداء الممثّلين الممتاز.

* «إميلي في باريس» على نتفليكس