منذ الخناق الاقتصادي الذي فرض سطوته على سوريا بعد انحسار الحرب، جرّب كثيرون من المحسوبين على الإعلام سواء بشكله التقليدي، أو السوشال ميدياوي، محاولة استثمار الظرف المعيشي وخلق فرجة مجانية، بقصد تحقيق أكبر قدر من المشاهدات. مرّة يظهر «يوتيوبر» كان يقيم في أوروبا، وعاد إلى دمشق ليمشي في الشارع حاملاً رزمة نقود، ويرتدي لباساً دينياً، ويوزّع على المحتاجين بصيغة مهينة لا تجيد إلا الاستعراض الوقح. ومرة أخرى يفلت شاب في الشارع وهو يحمل مايكروفوناً تتعقبه كاميرا تصوّر تحديّات وضيعة بين المارّة، مقابل تربيح مبالغ مالية، أو لمجرّد الظهور وادعاء الظرافة. حتى إنّ القضاء أوقف أحد هؤلاء لإمعانه في إذلال ضيوفه في الشارع. بهيئة شبيهة إلى حدّ ما، أطّل مراسل التلفزيون السوري في حلب شادي حلوة ببرنامج على السوشال ميديا الخاصة به، يسأل بائعي البسطة والفقراء المبعثرين في شوارع حلب، أسئلة تطرح على أطفال الروضات التحضيرية. وعند إجابتهم يقدم لهم ظرفاً يقول كم محتواه من المبلغ المالي، ليأخذوه بإذلال صريح، وبمنطق يتاجر إعلامياً بمعاناتهم. بعض الناس كان ترفض هذه الصدقة العلنية التي تشيّد عداء جذرياً مع مفهوم السرية التي يجب أن تقّدم فيه كل مساعدة إنسانية.لكن قبل أيام، طرحت جريدة «الوطن» السورية شبه الرسمية محتوى بصرياً من خلال حساباتها على السوشال ميديا، قوبل بانتقادات شبيهة. المادة كانت عبارة عن حلقة من برنامج اسمه «مع دعاء» وهو موسم جديد من برنامج سبق أن قدّمت منه الصحافية السورية دعاء جركس موسماً أوّلاً في رمضان الماضي، وعرض على قناة اليوتيوب الخاصة بـ جريدة «الوطن» وعلى صفحتها على الفايسبوك. وفي البرنامج، تخرج الصبية الجميلة بكامل أناقتها وماكياجها لتسأل الناس عن فطورهم في اليوم السابق، وما يشتهون أكله، ثم ترافقهم لتشتري لهم بنفسها حوائج الطبخة التي يقررونها وتودّعهم، فتنتهي الحلقة مع التعريج على حوارات حميمة وطرائف خفيفة ومبارزات كلامية دمثة، وبذلك تكون قد درست أحوال السوق وتبايناته، ووضعت مشاهديها في حال الأسعار. علماً انه بمثل هذه الحال غالباً ستصدم بجلافة بعض التجّار الذين يعتقدون أن الكاميرا سيف مسلّط على رقابهم، لكن الفكرة تترك في الوقت نفسه فسحة لصنّاعها لالتقاط روح المدينة من ظروف فقرائها الذين صاروا أكثرية ساحقة. وهنا يمكن أن تقدم لبعضهم وجبة رمضانية شهية يصنعونها بأنفسهم في شهر يحتمل مزاجه هذه البرامج، وإن لم تخرج من عباءة «التلفزيون والناس» البرنامج الشهير الذي كان يقدّمه عبد المعين عبد المجيد على الشاشة السورية، وما زال واقفاً عنده، لكن مع تحوّل في المسار من التلفزيون الحكومي الرسمي، إلى موقع «عنب بلادي» المعارض من دون تغيّر أو تطوّر في المحتوى منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن!
المشكلة التي حدثت أن «الوطن» قررت تصوير موسم جديد من البرنامج، بناء على طلب الناس حسبما أوضحت مقدمة البرنامج بنفسها، على صفحتها على الفايسبوك، أو ربما لاشتداد موجة العوز. لكن في آخر حلقة عرضت، ظهر رجلّ مسنّ سألته المقدمة، عن أكثر أكلة يحبّها فرفض الإجابة، ثم راحت تعدّ له مجموعة طبخات كي يختار إحداها بعد إيضاحه بأنه يعيش وحيداً بعد وفاة زوجته، ويتناول طعامه في بيت ابنته التي تجاوره في السكن. اقترحت عليه أن تشتري له أغراض أكثر أكلة يحبّها فرفض، كي لا يكلّفها. ولدى إصرارها بغنج صريح، قابلها بالاعتذار مرة ثانية وثالثة، لكّنه وافق أخيراً، لينهار بالبكاء أمام الكاميرا. عانقته المذيعة بمنطق ابنة تطبطب على كتف أبيها المنهك. قهرت دموع الرجل كلّ من شاهدها، بخاصة أنه بكى مرة ثانية بعد شرائها الأغراض له. اقتطع هذا المشهد وشاركته مئات الصفحات السورية مذيلاً بالشتائم والانتقادات اللاذعة، على اعتبار أنه يمثّل في معاناة رجل مسّن حاصره ضنك العيش، وسط موجة عتم وجوع تجتاح الشام وهي في أوجها الآن، وهو ما لم يعتده السوريون منذ زمن، وحتى في أحلك أوقات الحرب. الحالة الإعلامية التي وجدت بعض المدافعين عنها بدون حجّة بليغة أو برهان مقنع، قد تبدو مقبولة ولطيفة في شهر رمضان بعيداً عن مثل هذه المواقف، لكّنها هنا تحديداً وسط هذا الظرف المعيشي القاتم وتسيّد الحاجة، لا يبدو أن هناك طائلاً منها سوى الاستعراض، وهي عندما تسمح بعرض انكسار رجل طاعن يبكي بذلّ واضح، فإنها تسقط في مطب مهني معيب وتوصم بصورة مهينة، من دون أن تداري على كسرته، عندما تسمح بظهوره على الهواء، بلا أدنى تفكير مثلاً بأولاده وأحفاده وهم يرونه يبكي من أجل طبخة ربما لم يتذوّقها منذ سنين، أو لعلّه عثر عمّن يفسح له الفرصة ليحكي عن أحواله، في وقت لا يملك فيه أحد ترف سؤال غيره عن ظروفه.