يذكرنا سيباستيان ليليو دوماً بالقصص التي رويت لنا، بالأخبار التي نسمعها، وبالأساطير التي تختلف وفقاً للفترة والمجتمع اللذين نشأت فيهما، كما اللذين نشأنا فيهما. جديده «الأعجوبة» (2022) دراما عن حقبة تاريخية كانت فيها القصص أشبه بمهرب، بوسيلة لتعزيز المعتقدات، وللبقاء. يأتي معظمها من الدين والكتاب المقدس والتفاصيل الصغيرة التي أصبحت قصصاً شائعة حتى اليوم. بنبرة تتأرجح بين الدراما والتحليل الفلسفي والديني والإثارة الريفية، يتعمق ليليو في بناء معتقداتنا، موجّهاً إصبع الاتهام إلى الدين والسينما وحتى وسائل الإعلام، التي تحدّد مفهومنا للعالم. هكذا، يواجه المخرج التشيلي العلم والإيمان، الفرد والمجتمع، من خلال الأبطال الذين يتصدّون للأعراف الاجتماعية التي صوّرها جيداً في «غلوريا» (2013) و «امرأة رائعة» (2017، أوسكار أفضل فيلم أجنبي). في بلد أنهكه البؤس والمجاعة وعاش لقرون تحت رحمة الإنكليز، فإن القصص هي واحدة من الأشياء التي تمنحهم إحساساً بالهوية. قصة «الأعجوبة» وشخصياتها، انعكاس حديث للتعصب الديني والأصولية. يقدم في فيلمه قصة تبني تصورنا، وتصبح أرضاً خصبة للنقاش والتساؤل، تماماً كما تتساءل الممرضة الجديدة وتحاول أن تفهم كيف أن فتاة صغيرة تقتات فقط على المنّ من السماء.

إيرلندا، 1968، منذ وقت ليس ببعيد، تغلبت البلاد على إحدى أكبر مآسيها: المجاعة، التي أودت بحياة ما يقرب من مليوني ونصف مليون نسمة. بلد كاثوليكي، يميل كثيراً للإيمان. إليزابيث رايت (فلورانس بيو) ممرضة إنكليزية تم استدعاؤها إلى بلدة ريفية في الجزيرة لتكون واحدة ممن يراقبن آنا أودونيل (كيلا لورد كاسيدي)، وهي فتاة تبلغ 11 عاماً، تعيش بصحة جيدة منذ أربعة أشهر بلا أكل، تدّعي فقط أنها تأكل المنّ الذي يأتيها من السماء، وتصلّي ليسوع في كل الأوقات، ويبدأ الناس باعتبارها قديسةً. يتعين على الممرضة أن تراقب آنا في مناوبات مدتها ثماني ساعات مع راهبة، وكلاهما تم تعيينه من قبل لجنة من قادة البلدة يسعون إلى تأكيد المعجزة. لكن إليزابيث امرأة علم، تدرك أنه لا يمكن لفتاة أن تبقى على قيد الحياة بعد أربعة أشهر بلا طعام. رغم شخصيتها القوية وتاريخها المعقد والغامض، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع ثقافة غريبة عنها، وتحاول مساعدة آنا. ولكن هذا ليس سهلاً، خصوصاً عندما تبدأ الأسرار بالانكشاف بفضل الصحافي ويليام (توم بورك) الذي يريد أن يكتب عن «الفتاة المعجزة». سيتم الكشف عن قصص القرية المليئة بالأسرار. شيئاً فشيئاً، يصبح الأمر في يد الممرضة لتحديد ما يجب فعله، ليس فقط بمعتقداتها، لكن أيضاً بمعتقدات القرية كلها، لأن السر يمكن أن يكون بسبب الإيمان الديني أو بسبب عيوب الطبيعة البشرية.


استناداً إلى كتاب بالعنوان نفسه صدر عام 2016 للإيرلندية إيما دينوغيو، تتلاشى أسرار «الأعجوبة» تدريجاً، ضمن سرد دقيق وملاحظات حول العنف والدين والأمومة، ونظرة على العلاقات الاجتماعية التي يؤطّرها الدين والأسرة. يكشف ليليو الآليات الخيالية لفيلمه في المشهد الأول، عندما يظهر لنا أن بعض مشاهد الفيلم صوِّرت في استديو حديث، ويفعل ذلك مرات عدة، متيحاً لبعض شخصياته بالنظر مباشرة إلى الكاميرا مستجوباً المشاهد. إنها دعوة للدخول في القصة، لأننا جميعاً بحاجة إلى التشبث بالقصص: «بدون القصص، لا نكون شيئاً» كما تقول راوية الفيلم. من جانبها، تحتاج شخصيات «الأعجوبة» إلى قصصها الخاصة، تلك التي تجعلها تؤيد أو تعارض عملية تقديس الأطفال، في لحظات شهدت البلاد واحدة من أكبر المجاعات. ليليو مهتم بالتشكيك في ما يسمّى المعجزات، ولهذا يستخدم وسيطاً يُعرف بأنه «24 كذبة في الثانية» (مقولة مايكل هانيكي الذي يناقض فيها مقولة جان لوك غودار). ترحب بنا الراوية وتخبرنا بأنّ هذه هي بداية الأعجوبة، ثم يلتقط الفيلم الحبكة الظاهرة وهي ما يسمّى «بالفتيات الصائمات»، لكنه لا يأخذها على أنّها حقيقة ملموسة، بل كخيال، لذلك ربما تكون قصة آنا هي ما أسماه مايكل هانيكي «كذبة في خدمة الحقيقة، أو في خدمة محاولة اكتشاف الحقيقة».
يتجسد الصراع بين الإيمان والعقل في الفيلم


«الأعجوبة» عبارة عن عمل يطبخ على نار هادئة جداً، ويعطي تجربة روحانية إذا تم تقديرها بالصبر والالتزام والاهتمام والكرم، وترك الحواس كلها مستيقظة. يستغرق ليليو كل الوقت في العالم لتطريز عمل مليء بالتفاصيل الدقيقة، لا يترك أي هامش في قصته. فيلم يستخدم كل الطيات والفروق الدقيقة لفضح الجواف والآثار المختلفة لقصة غامضة في البداية ورائعة في نهاية المطاف حول الكذب والتعصب الديني. فيلم ليليو الجديد لا يطمح إلى رسم الأصالة ولا يقدمها بأسلوب مفرط، على العكس، البساطة هنا مهيبة في مناخ يكاد يكون خانقاً ومثيراً للقلق. وهذا الجو القمعي يعمل ببراعة، حيث تلعب البيئة الضبابية المكسوة بغيوم إيرلندا وموسيقى ماثيو هربرت المهيبة وكاميرا آري ويغنر القريبة من وجوه شخصياتها، في مساحة ضيقة وضوء خافت للغاية.
يتجسد الصراع بين الإيمان والعقل في الفيلم، ما يسمح لنا بقراءة ما يريد قوله عن التعصب الديني والعلمي. وسط كل هذا، توجد الفتاة المقدسة، محاصرة مثل طائر «الثوماتروب»، تلك اللعبة القديمة التي تنقل الإحساس بالحركة إلى الرسم المرسوم على القرص. يطرح السيناريو أسئلة أوسع، ليس فقط حول طبيعة الدين والعقيدة، لكن أيضاً حول حاجتنا الماسة إلى القصص في حياتنا، وكيف يمكنها ضمان بقائنا أو اتخاذ قرار بتدميرنا. يؤكد الفيلم أنه من المفيد البحث عن إجابة لسؤال حول أي نوع من القصص علينا التشبث بها، خصوصاً أنّه بعد انتهاء الفيلم، ينتابنا إحساس مرّ عن القصص والخرافات والأساطير والحواديت.

* The Wonder على نتفليكس