في أغنية «أبوابراهيم» لفرقة «العاشقين» الفلسطينية -الشهيرة إبان ثمانينيات القرن الماضي- يشير الشاعر أحمد دحبور على لسان الشهيد عز الدين القسّام في نص الأغنية إلى أنه «يا أبو ابراهيم لسى الأيام جاية، لا تودعني وإمسك هالبارودة». بعده و قبل مدةٍ قصيرة، قال الشهيد ابراهيم النابلسي في وصيته «لا تتركوا البارودة». يتنوّع «شكل البارودة» المقاومة للصهاينة هذه الأيّام، لكنها لا تزال تحدث ذات التأثير وتؤكد على ذات الموقف. وما موقف الجماهير العربية بمقاومة التطبيع ومناهضته التي تظهر في كل حدبٍ وصوب إبان كأس العالم الحالي المقام في قطر، إلا نوعاً من «الإشتباك المسلّح» وإن كان بلا رصاصٍ حي، فكلٌ يقاوم حيثما هو. كلٌ يقاوم حيثما يستطيع. ينتشر عبر مواقع التواصل الإجتماعي وعبر صفحاتٍ موثّقة -كصفحة قناة «الجزيرة» الرسمية - مقطع تحت مسمى «مشجع يكشف تنكر مراسل اسرائيلي»، يوثّق حواراً بين صحافي صهيوني ومشجعٍ عربي، لا نرى وجه المشجّع في الفيديو، يشير الشاب إلى أنه «ليس هناك شيءٌ اسمه اسرائيل». كما يوثّق أن الصحافي «كان في البارحة مع الإكوادور، واليوم هو يرفع العلم الإسرائيلي» في إشارةٍ إلى «اختباء» الصحافيين الصهاينة تحت أعلام دولٍ أخرى كي يستطيعوا إجراء «مقابلاتٍ» مع الجمهور العربي أو الجمهور بشكلٍ عام في مونديال الدوحة 2022. ليست الرياضةُ منفصلةً عن الواقع العربي المعاش؛ بالعكس إن كرة القدم هي الرياضة الشعبية الأولى التي تعبّر بشكلها الصريح عن مزاج الشوارع العربية.
تجبر الأعلام الفلسطينية، كما سلوك المشجعين العرب في المونديال الحالي وسائل الإعلام العربية كما الغربية وحتى إعلام دولة الإحتلال على التحدّث مطوّلاً عن «مقاومة التطبيع» و«انتشار علم فلسطين» المكثّف في مختلف المباريات وحتى تلك التي لا «فرق عربية» تلعب فيها. حدث ذلك حين رفع أحد المشجعين مثلاً صورة الراحلة شيرين أبوعاقلة مراسلة قناة «الجزيرة» التي اغتالها جيش الإحتلال على الهواء. في علم السيميائية، يطرح فيلسوف السيميائية الأشهر الألماني والتر بنجامين كيف أنَّ «الرمز» و«الصورة» يتداخلان لكي يقدّما «خطاباً عاماً» ما.
هذا الأمر يأتي في أوضح صوره منذ بداية الحدث الرياضي الأبرز لهذا العام: إذ تحضر بكثافة الأعلام الفلسطينية، مع أن الأمر ليس محضّراً ولا مدبّراً بشكلٍ رسمي، خصوصاً مع تطبيل وسائل الإعلام العربية بكل قوتها وتضامن أنظمتها معها على تغييب القضية الفلسطنيية عن أي حدثٍ كبير، كما تعويم القضايا الداخلية لكل بلدٍ على القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية والشرق الأوسط. أن يحضر مشجعٌ عربي من بلاده، ليشاهد كأس العالم ويشجع منتخبه، ذلك حدثٌ رياضيٌ بحت، لكن أن يأتي حاملاً معه علم فلسطين في حقيبته، مهما كان حجم هذا العلم (إذ بلغ حجم بعض الأعلام الأمتار)، فهذا يعني أن هناك مانفيستو ثقافياً/ رياضياً/ أخلاقياً/ سياسياً تريد هذه الجماهير طرقه. ذلك حدث في مباراة المغرب وبلجيكا قبل أيام، حيث حمل المشجعون المغاربة علماً فلسطينياً ضخماً، واللافت كان مشاركة الجميع في حمله ومد الأيادي بشكلٍ ظاهرٍ ومقصود للتأكيد على الرغبة واستغلال «الظهور/ الضوء» الإعلامي لقول رأيهم الشخصي/العام هذا. الأمر نفسه تكرر في مباراة تونس واستراليا مع علمٍ كبيرٍ مشابه لذاك من مباراة المغرب. هنا يتداخل الشخصي بالعام مع «العرض»، فتظهر الرغبة في قول ما لا يستطيعون قوله كأفراد وتحذفه وسائل التواصل الإجتماعي كالفايسبوك وتويتر- الداعمة لكيان الإحتلال علناً- تحت مسمياتٍ كثيرة مثل «خطاب الكراهية» و«نشر العنف» و«دعم العنف» وسواها.
في الإطار عينه، وعلى عادة الصهاينة أن يحاولوا «قطف» ثمار المرحلة، و"خطف" لقاءٍ هنا وهناك لتمرير أن الشعوب العربية «تحبنا» و«تريدنا»، خصوصاً أنها خلال العام الفائت ومع تطبيع بعض الأنظمة بدا أنَّ هناك «جيلاً» عربياً جديداً «يطبّع» ولا يرى في التطبيع أي إشكالية، كان لافتاً ومحبباً في آن ظهور جيل خليجي معارض تماماً ليس للتطبيع فقط، بل أيضاً لأي تواصل مع الصهاينة، فشاهدنا أحد الفيديوهات حيث يصرخ مشجّع قطري بمراسل صهيوني بأنّه «ليس مرحباً به هنا، هذه قطر، هذه دولتنا وأنت غير مرحبٍ بك هنا، ليس هناك اسرائيل، هناك فقط فلسطين». المشجع الغاضب هذا لم يكن وحيداً، لقد كانت هناك في الخلفية جوقةٌ من مشجعين عرب وغيرهم يقولون بلغاتٍ مختلفة: «فلسطين حرة» و«تحيا فلسطين» وسواهما وقد تكرر الأمر كلما شاهد الشبان مراسلاً صهيونياً يبث رسالة. وكان لافتاً توزيع بيان لمجموعة شبانٍ قطريين على المحلات القطرية تدعوهم فيها لطبع منشور يشير إلى أنّ «هذا المكان داعم لمقاطعة الكيان الصهيوني»، ووضعه على واجهاتها بغرض دعم إخوانهم في فلسطين عملياً قائلين: «ندرك أنكم لن ترضوا بأن يحظى أولئك المغتصبون «لأرضكم» بالحصول على الخدمات التي تقدّمها مشاريعكم». ويبدو استعمال كلمة «أرضكم» إشارة إلى أنّها أرضٌ عربية وإسلامية وجعل الخطاب «عاماً» وشمولياً إلى حد يجعل المفكر القومي العربي الراحل قسطنطين زريق فخوراً بقومية هؤلاء الشباب العربية. وما طلبه هؤلاء الشبان، بات يحدث بشكلٍ طبيعي، فما حدث مع المراسل الصهيوني دور هوفمان الذي طرده في البداية سائق الأجرة، ثم صاحب المطعم حال معرفتهما بأنه صهيوني.
على الجانب الآخر، تأتي الحادثة اللطيفة التي رواها مدرب منتخب البرازيل تيتي التي نشر فيديو مصوّر عنها، حينما ساعده «رجلٌ عربي» بحسب كلامه على حمل حفيده على ظهره، وللمصادفة كان هذا الشاب العربي يرتدي علم فلسطين على ظهره، ومن المرجّح ألا يكون هذا الشاب فلسطينياً أصلاً، ذلك أنَّ العلم الفلسطيني كان بمثابة «الثيمة/التمظهر» العربي الأبرز في معظم المباريات. ولاريب أن مشاهد «رقص» مشجعين برازيليين على أهزوجة «أنا دمي فلسطيني» يمكن اعتباره نتاجاً طبيعياً لكل هذا. في الختام؛ تأتي ردات فعل الشارع العربي لتظهر معدناً لا تريد وسائل الإعلام التقليدية/ الكلاسيكية كما الحديثة (وسائل التواصل) أنتظهرها لكنها تظهر يظهر معها معدن الشعب العربي في مواجهة الصهاينة.