أعلن صناع مسلسل «معاوية بن أبي سفيان» (إنتاج شبكة mbc السعودية) عن انطلاق جلسات تصوير العمل في السعودية. انشغل مخرج العمل طارق العريان، أخيراً بتحضيراته للمسلسل التي تشمل معاينة أماكن التصوير وتوقيع التعاقدات مع الفنانين المشاركين. ومن المقرّر عرض المسلسل على عدد من القنوات العربية خلال سباق الدراما الرمضانية في عام 2023.العمل، الذي تدور أحداثه في إطار ملحمي، يتناول الفتنة الكبرى، التي أحدثت شرخاً للأمة الإسلامية، أي الفترة التي تبدأ بالفتنة، بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان، مروراً بتولّي علي، ثم استشهاد علي وتولي الحسن، ثم تنازل الحسن وتولي معاوية، وتولي يزيد، وحتى استشهاد الحسين في كربلاء. كما يتناول المسلسل أحداث معركتي الجمل وصفين. بالتزامن مع هذا الاهتمام الدرامي بشخصية إشكالية في التاريخ الإسلامي مثل معاوية بن أبي سفيان، أصدر «المركز الأكاديمي للأبحاث» الترجمة العربية لكتاب «مُعاوية بن أبي سفيان – مِن الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية» (ترجمة هشام شامية) للباحث الأميركي ستيفن هامفريز.


يرى هامفريز أنه على الرغم مِن من أهمية شخصية معاوية بن أبي سفيان الحاسمة في الفترة التكوينية للخلافة والإمبراطورية العربية الإسلامية، إلا أنّ طوفان الدراسات التي تناولت القرن الإسلامي الأول، لم تلقَ سوى القليل من الاهتمام بتاريخ هذه الشخصية. وقد كان آخر باحث درس تاريخ معاوية وعصره هو المستشرق هنري لامنس (1862 ــــ 1937)، الذي كان منحازاً إلى الأمويين، لكنه لم يخصص أبداً دراسة كاملة لمؤسّس الأسرة الحاكمة. وبينما اكتفى المؤرخ البريطاني مارتن هيندز بكتابة مقالة مُختصرة في «موسوعة الإسلام» (نُشرت عام 1991 بعد وفاة كاتبها) كان ممكناً أن تكون بداية سيرة مثالية عن معاوية، إلا أنّ وفاة هيندز الباكرة حرمتنا هذا الاحتمال.
يُرجع هامفريز أسباب إهمال دراسة سيرة معاوية بن أبي سفيان إلى أن الأخير رجل يُصعب تحديد موقف منه، ومن الصعب التأكد مما نعرفه حقاً عنه ويصعب فهم ما نعرفه (أو نعتقد أننا نعرفه) عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غالبية الحوادث والمشكلات والتواريخ التي تبدو غامضة أو سيّئة خلال حياة معاوية، لم يتم التوقف عندها أو سردها إلا في سياق العقود التي تلت وفاته.
تنقسم حياة معاوية وفقاً لدراسة هامفريز إلى ثلاث مراحل:
- ما يقرب من ثلاثين عاماً، من الطفولة إلى أوائل سن الرشد، مرّت ضمن الهياكل العائلية والدينية التقليدية لقبيلة قريش العربية.
- خمسة وعشرون عاماً أمضاها كعضو في العائلة الجديدة، أي النخبة العسكرية والسياسية الإسلامية المهيمنة.
- خمسة وعشرون عاماً يُكافح من أجل أن يصمد مُلكه.
عن المرحلة الأولى الخاصة بالولادة والنشأة والتكوين، لا يمكن معرفة الكثير. أما المرحلة الثانية، خصوصاً السنوات العشرين من حكمه لسوريا في عهد الخليفتين عمر بن الخطاب (634-644) وعثمان بن عفان (644-656)، فتنقل المصادر عدداً من التأكيدات والحكايات عنه، بعضها صحيح بلا شك، على الأقل من حيث الجوهر. وأخيراً بالنسبة إلى المرحلة الثالثة، لدينا كم هائل من المعلومات (لم يصل إلينا أيّ منها مِن مصادر موثوقة) خصوصاً أنّها تناولت الحرب مع الإمام علي بن أبي طالب، التي ألقت بظلالها الثقيلة على التاريخ الإسلامي إلى اليوم.
اعتمد هامفريز على المصادر اليونانية والسريانية لتتبع تاريخ معاوية نظراً إلى ندرة ما قدّمته النصوص العربية عنه، وخصوصاً أنّ الأخيرة شابها الكثير مِن التناقض والإرباك، ولم تركز المصادر الإسلامية على إيضاح كيفية تعامل الخليفة مع إمبراطوريته التي لم يخضع له فيها مسلمون فقط، بل خضع له أيضاً مسيحيون ويهود وزرادشتيون.
تجاهلت المصادر الإسلامية التوثيق الكامل للحملات التي أرسلها معاوية كلّ عام تقريباً إلى الأناضول البيزنطية وعلى طول ساحل بحر إيجه، وكيف كان يدبر تلك الموارد الضخمة. فإذا نجح في الاستيلاء على القسطنطينية وإنهاء الحكم البيزنطي، فسيكون خليفة كل من قيصر ونبي الله محمد، أي كان معاوية سيتسيّد العالمين الإسلامي والمسيحي بدون وحي إلهي.
في الواقع، خرج مُعاوية عن الفئات الأخلاقية التي ابتكرها المسلمون لاحقاً، لتقييم الموقف الديني للشخص. أسهم هذا بلا شك في مكانته الغامضة في المخيّلة الإسلامية. لقد خرّب نموذج الحُكم المثالي، وبالتالي لم يتمكن المسلمون أبداً من تحديد ما يجب أن يفعلوه به. فقط قامت جماعتان دينيتان وسياسيتان هما الخوارج والشيعة بالاتفاق على أن مُعاوية كان رمزاً للشر المطلق، ورجلاً عمل على تدمير العهد الجديد الذي أقامه النبي محمد وأعاد العالم إلى وحشية الجاهلية، أي زمن ما قبل الإسلام.
أما الخلفاء العباسيون الذين أطاحوا بالسلالة الأموية مِن السلطة، فقد فعلوا كُل ما في وسعهم لتشويه تاريخ مُعاوية بن أبي سفيان وكل نسله، بدءاً مِن أبي العباس السفاح (749 – 754) الذي حدّد مسار التعامل مع التاريخ الأموي في لحظة توليه الحكم في مدينة الكوفة، قائلاً: «تباً تباً بني أمية». واستمر هذا المنهج مِن القدح والذم في عهد العباسيين، وخصوصاً عهدي الخليفة المأمون (813 – 833) والخليفة المعتضد (892 – 902) حيث تطور تشويه تاريخ معاوية والأمويين، لا بوصفهم فسدة أو طغاة دمويين، بل تحولوا إلى مُرتدين عن الإسلام، ولم يمض أي خليفة منهما في التأكيد على مسألة التكفير لأن تداعياتها السياسية لم تكن متوقّعة. خلال عهد العباسيين، استمرت حرب المرويّات بين التيارات الإسلامية، خصوصاً الشيعة والسنة. فقد أخذ الشيعة على مُعاوية ونسله حروبهم ضد الإمام علي بن أبي طالب ونسله حتى مقتل الحُسين بن علي على يد يزيد بن مُعاوية. وقد رُفع على لسان الرسول في تلك الفترة، كمّ مِن أحاديث تقدم مُعاوية ونسله بوصفهم أهل النار، ولتصبح كلّ صفات الكفر هي خِصال الأمويين.
أما السُّنة، فلم يكن مُعاوية بن أبي سفيان لديهم صحابياً للرسول فحسب، بل كان أيضاً أحد ناسخي القرآن، أي مِن الفئة الصغيرة التي وثق بها النبي كي يُملي عليها الآيات. وبصرف النظر عن التقوى الدينية، فالسنة بارعون أيضاً في رفع الأحاديث وليس فقط الشيعة. كانت هناك أيضاً صلة قرابة بين النبي ومعاوية. كما ارتبط الأخير مع الأول بعلاقة زواج، فقد تزوج النبي مِن أم حبيبة شقيقة مُعاوية بعد فتح مكة (630).
سياسياً، كان لمعاوية بن أبي سفيان قدره، فقد عيّنه الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب - المعروف بشدته وعدله في التراث الإسلامي- والياً على سوريا، كما ثبّته الخليفة الثالث عثمان بن عفان في منصبه، وقد أثبت معاوية كفاءة إدارية وعسكرية هائلة خلال حُكمه.
رأى الإجماع السُّني أن معاوية كان بطلاً خلال الحرب الأهلية التي استمرت نصف عقد مُدمرة المجتمع الإسلامي، لكن معاوية، في الواقع، كان سبباً في تلك الحرب برفضه البيعة لعلي بن أبي طالب كخليفة شرعي ما لم يُسلمه قتلة عثمان بن عفان مِن أجل القصاص.
كانت هُناك دائماً ازدواجية سُنية في تقييم مُعاوية بن أبي سفيان. مع حلول القرن التاسع، أصبحت التقوى والمعرفة الدينية، قبل أي شيء، مقياساً لقبول سلوك الحُكام وتقييمهم، وقد كان مُعاوية في هذا السياق مُعضلة، لكن لها حلّ. فعلى صعيد ما عُرف بالتقوى الرسمية أو السلوك الشخصي، كان مقبولاً (لم يثر أي فضيحة عامة). أما على صعيد الورع الديني، فقد تم الاكتفاء بمعاوية كحاكم سياسي وليس مرجعاً دينياً.
ولفهم هذا الدمج الغريب، تظهر قصتان في كتاب «أنساب الأشراف» لأحمد بن يحيى البلاذري (892)، إذ تؤكد إحدى القصتين على دنيوية معاوية وعدم اكتراثه بالتدين، وجاء نصها كالتالي: «قال مُعاوية لابن الكواء اليشكري: نشدتك الله كيف تَعلمني؟ فقال: أما إذ نشدتني الله فإنّي أعلمك واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الرَّشا (جمع رشوة)». أما القصة الأخرى، فهي منسوبة إلى مُعاوية يقدم نفسه ويشرح أسباب فوزه على الإمام علي في صراع المُلك، إذ يقول مُعاوية: «أُعِنت على عَلي بكتماني سري ونشره أسراره، وبطاعة أهل الشام لي ومعصية أصحابه له، وبذلي مالي وإمساكه إياه».
وبرغم الخلاف، يتفق السنة والشيعة وباقي الفرقاء مِن المدارس الإسلامية المُختلفة تقريباً على أن معاوية بن أبي سفيان كان مسؤولاً عن تحويل الخلافة إلى مُلك. حوّل حكومة تعمل وفقاً للمبادئ التي أرساها الرسول، إلى هيمنة سلطوية لا تعرف مِن الإسلام إلا اسمه، ولم تكن تختلف عن أي إمبراطورية أخرى. لقد أطاح بمبدأ الشورى لاختيار الخليفة وحوّله إلى أساس الوراثة مُطيحاً بفكرة الاستحقاق والمكانة الدينية.
جادل ابن خلدون بأنّ التغيّرات التي أحدثها معاوية، كانت حتميةً في تطور المجتمعات


بعيدًا عن السياق الديني، جادل ابن خلدون (1338 – 1406) أن التغيّرات التي أحدثها معاوية، كانت حتمية في تطور المجتمعات، وقد ناضل ابن خلدون مِن أجل التوفيق بين المُثل الإسلامية والواقع الدنيوي، إذ كان يعتقد أن كليهما يمثلان أبعاداً ضرورية للحياة البشرية، ومُثل الإسلام لا يمكن تحقيقها إلا مِن خلال الاعتراف بحقائق الطبيعة البشرية والديناميكيات المُحددة للتنظيم الاجتماعي البشري. يسعى الناس بطبيعتهم للسيطرة ولإشباع شهواتهم الفطرية (وهذا ما كان يسهل السيطرة عليه في حيز ضيق ومثالي بواسطة العصبية أو القبائلية مثل المجتمع النبوي في المدينة أو مكة). وإذا أُريد تجنب التدمير المتبادل، فإن مبادئ الانضباط والإكراه ضرورية. ومع توسع المجتمع الإسلامي وخروجه من حدوده الضيقة وتحوله إلى مدن منتشرة على نطاق جُغرافي واسع، لا يمنع الناس التربص بعضهم ببعض إلا إكراه خارجيّ قويّ يتحقّق مِن خلال سيادة قهرية وهي السلطة الملكية. وقد ذهب ابن خلدون أبعد مِن ذلك، مُعتبراً أن العصبية أو الملك ليسا جيدين أو سيئين بطبيعتهما، وأن ما يهم هو الغايات التي طُبقت مِن أجلهما، وأن النظر إلى طبيعة المجتمع البشري، سيحول العصبية حتماً إلى مُلك.
وأخيراً، كيف سيتعامل نص مسلسل معاوية بن أبي سفيان مع شخصية، تُعتبر، من بين جميع الخلفاء الأوائل، الأكثر مراوغة وغموضاً. كانت حياته رمزاً للصراعات والهموم التي ابتليت بها أمة الإسلام، وبقيت كذلك حتى يومنا هذا. مع ذلك، فإن معاوية شخصية حاسمة في تاريخ الإسلام. وبدونه، يبدو التطور السياسي والديني للإسلام المبكر غامضاً وغير مفهوم. علاوة على ذلك، مهما كنا نظن عنه كحاكم وإنسان، فإنه سياسي بارع استطاع أن يظلّ خليفة للمسلمين لما يقرب عشرين عاماً، مُسيطراً على إمبراطورية هائلة بلا منازع.