منذ أن أُضيفت المسلسلات التركية إلى أعمال «نتفليكس» الأصلية، صار الجمهور أمام إنتاجات لم يعتدها في مثل هذا النوع من الدراما التي لم تعد شعبيتها محصورة في العالم العربي الذي شهد ــ وما زال ــ سيلاً من مشاريع الدبلجة خلال السنوات الماضية. هكذا، اختبر المشاهدون محتوى مختلفاً، يدور في غالبيته في فلك الماورائيات والسايكولوجيا والجريمة... التي باتت وجبة مفضّلة على مائدة المشتركين. وهذا ما بدا واضحاً في عدد من المسلسلات القصيرة الناطقة بالتركية التي أبصرت النور على المنصّة الأميركية الرائدة في مجال البثّ التدفّقي، نذكر منها: «عطية»، «طيف إسطنبول» و«فاطمة».حتى إنّ الأصداء الإيجابية التي حظيت بها هذه الأعمال فتحت شهية شبكات «ستريمينغ» أخرى على الاستثمار في هذا الميدان، على رأسها «ديزني بلاس» التي انطلقت رسمياً في تركيا في شهر حزيران (يونيو) الماضي، ضمن احتفال في حوض بناء السفن في إسطنبول، أحياه تاركان بحضور مروحة واسعة من النجوم المحليين. المنصة المتوافرة اليوم في أكثر من 15 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتملك 152 مليون مشترك حول العالم (بزيادة 31% عن العام الماضي)، وقّعت عقود عمل حصرية مع باقة من نجوم الصفّ الأوّل في تركيا لإنجاز أعمال درامية وسينمائية خاصة بها، تدخل من خلالها على خطّ المنافسة المستعرة في هذه البقعة من الأرض.
في 28 تموز (يوليو) الماضي، كان عملاء «نتفليكس» على موعد من مسلسل تركي جديد بعنوان «ذاتٌ أخرى»، يحمل توقيع السيناريست نوران إيفرين شيت (1980)، صاحب نصَّيْ فيلم «العشق يحب الصُّدف» (إخراج عمر فاروق سوراك ــ 2011 ــ 118 د) ومسلسل «عشق» (إخراج أمور آتاي ايهان اوزديمير ونيسان أكمان ــ 2013).
دراما حميمية وعاطفية، تدور أحداثها حول الصديقات الثلاث: الطبيبة «آدا» (توبا بويوكستون) والمحامية «سيفغي» (بونجوك يلماز) والمؤثّرة على مواقع التواصل الاجتماعي «ليلى» (صدى باكان).
ثماني حلقات تقترب مدّة كلّ منها من الساعة التلفزيونية، تتناول مواضيع منوّعة قد لا تروق لبعضهم، غير أنّها دراما جيّدة مدعومة بأداء تمثيلي قوي، وتميل بشدّة صوب أفكار لطالما تمّ التقليل من شأنها بشدّة على الشاشة الصغيرة، كالكرم والانفتاح والتفاهم.
تتمحور الحبكة حول رحلة الثلاثي المرتجلة إلى مدينة آيوالق، على ساحل بحر إيجه المطلّ على منطقة مرمرة شمال غرب تركيا وأقصى غرب مدينة بالق أسير، بعد تجدّد معاناة «سيفغي» مع السرطان وفشل علاجها. أما الهدف، فهو البحث عن شكل جديد من العلاج ذي بعد روحي، بمساعدة «زمان». غير أنّها تستحيل رحلة لاكتشاف الذات والصحوة الروحية، تخوضها كلّ امرأة على حدة، والعديد من الشخصيات الأخرى التي تبدأ في مواجهة صدماتها وقلقها، واتخاذ قرارات تؤثر في النهاية على علاقاتها ومستقبلها.
العمل المؤلّف من ثماني حلقات يحمل توقيع نوران إيفرين شيت


من المفترض أن يكون «ذات أخرى» مسلسلاً «خفيفاً»، وهو كذلك. إلا أنّ الأمر لا يقتصر على ذلك. من خلال عدسة بوركو ألبتكين التي تصوّر سحر المنطقة بحرفية واضحة، يغوص في مواضيع تجعله أكثر إثارة للاهتمام. فهو يظهر كيف يمكن للتواصل مع الآخرين والذات، وربّما بواسطة قوّة «خارقة» حتى أن يشفي بشكل أعمق من الطب التقليدي بشكله الحالي. لا يروّج هذا العمل الدرامي للروحانية كحلّ سحري شامل، لكنّه يحثّ بطريقة ما على شمولية أكبر في التفكير وفهم أفضل لأنفسنا وللآخرين باعتبارهم مهمّين بشكل حيوي لكيفية تعاملنا مع ذواتنا وحيواتنا. فاستكشاف المرء لتاريخ جسده مثلاً يرتبط بماضيه أو ماضي أسرته، الأمر الذي يسبّب له التوتر أو المرض. بحسب نوران إيفرين شيت، هناك دائماً في ماضينا عبر الأجيال المتعاقبة ما ترك أثراً بالغاً في أجسامنا وأنفسنا، والتعامل معه سيغيّر الاتجاه نحو الأفضل!
سيكره البعض هذا. إلا أنّ انفتاح هذا المسلسل وجرعات الإيجابية التي يقدّمها قادران على الجذب، فيما تساعد الكاميرا على ترجمة الأفكار بأمانة. يؤخذ على «ذات أخرى» بعض الإطالة والمراوغة، لكنّه عموماً يبقى دراما إنسانية جميلة ومنعشة.

* «ذاتٌ أخرى» على «نتفليكس»