وفي اليوم المنتظر، أي في الخامس عشر من أيار (مايو) 2022، انطلقت المعركة الانتخابية بعد أشهر من التحشيد وشدّ العصب والتحريض، وإغداق المال السياسي. انطلقت المعركة التي وصفت بالمصيرية في تاريخ لبنان. ساعات طوال واكبها اللبنانيون من أقصى شماله الى أقصى جنوبه، وسط معارك محتدمة بين الأطياف السياسية التي دخلت عليها هذا الموسم قوى أخرى تسمى بـ«التغييرية». هذه الأخيرة حشدت معها الشاشات، ووصلت في كثير من الأحيان الى حفلات إلغاء للأطراف الأخرى وأبلستها، ولا سيما الأحزاب السياسية التي نالت حصتها الوفيرة بعد تظاهرات «17 تشرين»، بعد موسم انتخابي حافل على الشاشات، استغل آخر دقيقة تلفزيونية للترويج الانتخابي وبثّ السموم والتحريض، وتحويل المنابر الإعلامية الى جبهات عسكرية تقصف بالكلمة وشدّ العصب خصومها السياسيين.
خصّصت otv تغطيتها لمرشّحي التيار


بدت «الجديد» الأكثر بذخاً على استديواتها الجديدة

بخلاف ما تعكسه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، تعمّدت بعض الشاشات ــــ في الليلة الأخيرة قبل اليوم الانتخابي الطويل ــــ إفراد مساحات لتغطية الانتخابات، متّكئة على استديوات ضخمة، وتقنيات حديثة في فنون الغرافيكس والإضاءة وحركة الكاميرا، كما حال «الجديد»، وmtv، اللتين كشفتا أول من أمس عن استديوات ضخمة، وشاشات عملاقة. تمايزت «الجديد» هنا، لناحية استخدامها الخرائط التفاعلية والثلاثية الأبعاد، وحركة الكاميرات التي صالت وجالت في الاستديو الضخم، متنقلة بين المذيعين/ات، والأقسام المخصصة لعرض أرقام الناخبين ونسب الاقتراع، وأسماء اللوائح والخلفيات السياسية، مع تجنيد لأكثر من عشرين مراسلاً لكل محطة على الأرض بهدف مواكبة التغطية الحيّة للحدث الانتخابي. هذا في الشكل، أما في المضمون، فعاد الانقسام العمودي الحاد، بين القنوات، وتُرجم بشكل أكبر خلال الاستحقاق الانتخابي أمس. فالشعارات التي جالت وصالت على القنوات المهيمنة منذ عام 2019، مروراً بتفجير المرفأ (2020)، وليس انتهاءً بالأزمة النقدية والمالية واحتجاز أموال المودعين، ضُخّمت واستثمرت بشكل أكبر في يوم الانتخابات الطويل، فترجمت موجة من التحريض وبثّ الشائعات، والتحشيد لـ«قوى التغيير»، والترويج بأننا أمام «لبنان جديد» وانقلاب في المشهدية السياسية اللبنانية. فقد كان لافتاً لجوء «الجديد» الى حيلة في زمن الصمت الانتخابي، وعرضها فيديو يظهر فيه جورج صليبي، وهو يتلو مقدمة نشرة أخبار افتراضية، تشي بفوز «قوى التغيير»، فيما ضمّنت المحطة مقدمتها الواقعية عشية الانتخابات، لمجموعة عناوين سياسية مكرورة، أمثال «السرقة الموصوفة»، و«الفساد المعمّر»، و«الانهيار المالي»، و«تهريب الأموال»، و«جريمة المرفأ». وحذّرت من «إعادة إنتاج السلطة» وبمن «سيدلي لهم بصوته غداً». المحطة التي وضعت شعار «السلطة للشعب» أسفل شاشتها، خرجت مراسلتها نانسي السبع من الاستديو الجديد صبيحة يوم الانتخاب، لتصف ما يحصل بـ«انتفاضة اللبنانيين». دعتهم إلى أن يكون الحكم لهم للتخلص من «ويلات سلطة تنذكر ما تنعاد». كذلك فعلت mtv، التي دعت الناخبين الى «رفع الصوت في وجه الظلم والفساد»، و«الخنوع والخضوع والاستسلام»، وأيضاً ضد ما سمّته «الدويلة والعصابات والمافيات».

غضّت mtv الطرف عن الإشكالات التي افتعلتها «القوات»

وعلى مقلب lbci، استخدمت الأخيرة ورقة تفجير المرفأ واستعادت محطات قاسية من مشهديات الأزمات الاقتصادية والمعيشية وطوابير الذل، لتدعو الناخبين الى «إحداث التغيير». ففي تقرير عرضته المحطة (4 دقائق) قبل النشرة بعنوان «قبل ما تقترع... تذكّر»، لجأت الى صوت الممثل جورج خباز، مستعرضة صوراً أرشيفية من طوابير الذل في المحروقات والأفران والمصارف، وتفجير المرفأ. وبالمناسبة، تعمّدت القناة في الفترة المسائية إعادة شريط من إنتاجها حول هذا التفجير والتذكير بشهادات ناجين/ات، ضمن سياق الاستخدام السياسي الانتخابي. وضمن حفلات التحريض، تلاقى مالك الشريف مع المرشح فؤاد مخزومي، عندما سأل عن «تسليم بيروت الثانية لحزب الله»، بعدما دعا مخزومي الى ترك بيروت «للبيروتيين»! هكذا، يمكن تسمية ما حصل عشية الانتخابات وفي يوم الاستحقاق، بالانخراط السياسي الكامل للقنوات، عبر اصطفافها وتخندقها، وإشهارها الولاء السياسي، مستخدمة لهذا الغرض شتّى أساليب التزوير والتحريض وأبلسة الآخر. فالمعركة الانتخابية التي كان يُفترض أن تكون حامية ميدانياً، حلّت سخونتها على الشاشات مع فتح صنادق الاقتراع، وسط الحديث عن مقاطعة سنّية، وحجّ بعض القنوات الى نقاط جغرافية قد تبدو غير مرئية على الخرائط الديموغرافية لتعقّب الوجود «الشيعي» ومنح أصواته لحلفائه السياسيين. إذ تخندقت كل من lbci، وmtv، و«الجديد» ضمن اصطفاف واحد توّج أشهراً من فتح منابرها لقوى «التغيير» و«المعارضة» و«الكتائب» و«القوات»، و«الاشتراكي»، في مقابل قنوات أخرى، كـ«المنار»، وnbn، وotv استغلت هذا الحدث لتعزيز حضورها الحزبي بشكل أكبر، وأيضاً للرد على الحملات الممنهجة التي طالت أحزابها طوال السنوات الماضية. الجامع بين هذه القنوات، وضعها أسفل شاشاتها أرقام الناخبين في الدوائر الانتخابية، ونسب الاقتراع، وتصاريح المرشحين، في خرق واضح لقانون الصمت الانتخابي، كما حصل أيضاً ضمن مراكز الاقتراع لدى استصراح العديد من المراسلين للمرشحين داخلها. هذه الأرقام أضيفت إليها خرائط تفاعلية لجأت إليها بعض القنوات كـ mtv، و«الجديد» لعرض واقع الدوائر الانتخابية ونسب الإقبال على صناديق الاقتراع. علت أصوات التحريض والتزوير مع تقدّم ساعات النهار، وتبدّي أرقام الناخبين. فقد تصدّرت mtv، المشهد، مع ضخّها طوال ساعات النهار الانتخابي الطويل، تحريضاً مباشراً على «حزب الله»، في المناطق التي يشكل فيها ثقلاً وازناً كالبقاع والجنوب. هكذا، تعمّدت المحطة نشر معلومات غير مؤكدة عن «اعتداءات» ومخالفات لقانون الانتخابات في أقلام الاقتراع، تحصل في هذه المناطق، داعية وزارة الداخلية الى التدخّل، الى جانب شائعة مراسليها بأن أقلام الاقتراع في المناطق الموجود فيها الحزب تسودها الفوضى، وقلّة التنظيم بخلاف مناطق أخرى حزبية، تناصرها المحطة، مع تناسيها كمّ الإشكالات التي افتعلتها «القوات» في نقاط انتخابية مختلفة، موثقة بالصوت والصورة.
تخندقت lbci، وmtv، و«الجديد» في صفّ واحد توّج أشهراً من فتح منابرها لقوى «التغيير» و«المعارضة» و«الكتائب» و«القوات» و«الاشتراكي»

وبينما راحت محطة «المرّ» تنشر سيلاً من التحريض والتزوير، وصلت الى حدّ التشكيك بنتائج الانتخابات لأن لبنان يقع «تحت سيطرة حزب الله»، كانت «المنار» مرتاحة على وضعها. فقد ركّزت في تغطيتها الانتخابية على المدن والبلدات التي تشهد حضوراً وازناً لـ«حزب الله» لتستعرض ما وصفته مراراً بـ«العرس الوطني» مع تقاطر العشرات الى أقلام الاقتراع، وخصوصاً في المناطق الجنوبية التي شهدت زحمة غير مسبوقة، في المراكز الانتخابية. طبعاً، الحضور الشعبي في المشاركة الكثيفة في الانتخابات، اعتبرته قناة «المقاومة»، رداً طبيعياً على حملات الاستفزاز التي طالت المقاومة طوال السنوات الماضية. كلام لاقته فيها nbn، التي هيمن على تغطيتها اللون الأخضر، وأعلام «حركة أمل» مع تركيزها على القرى التي يشارك فيها بقوة مرشّحون من الحركة، ونقلها حركة الماكينات الانتخابية هناك. فقد كان لافتاً، ما ذكرته مراسلتها في «الخيام» ليندا مشلب، التي رأت في مشاركة الجنوبيين الكثيفة نوعاً من الردّ على الحملات التي تعرّض لها الثنائي الشيعي، واعتبار جمهورهما «مستهدفاً». على otv، ظهرت لغة التخندق بشكل أكبر، مع إفرادها مساحات واسعة «للتيار الوطني الحرّ»، ولمرشحيه وتعقّب حركتهم في الأقلام التي ينتخبون فيها. هكذا هيمن اللون البرتقالي على ما عداه على المحطة العونية، التي حصرت تغطيتها بتيارها وبحلفائه بشكل أقل، مع إبقائها على استديواتها المعتادة، وفقر عدد مراسليها في المناطق، بخلاف القنوات المهيمنة التي أظهرت بذخها المالي في هذا الحدث. أما «تلفزيون لبنان»، فدخل التغطية الانتخابية، مع حركة هادئة على الشاشة، ذهب ثقلها صوب استضافة المحللين والصحافيين، الى جانب رسائل المراسلين المنتشرين في المناطق اللبنانية، مع التزام المحطة بقانون الصمت الانتخابي، وإحجامها عن نقل أيّ تصريح لأيّ مرشح على الهواء.



استحقاق مفصلي على «الميادين»


لم تولِ الفضائيّات العربية اهتماماً كبيراً للانتخابات، واكتفت بفواصل ومواجز إخبارية من مراسليها في لبنان. وحدها «الميادين» خصّصت تغطية كبيرة للحدث تحت عنوان «لبنان... انتخابات الخيارات». فقد أولت الشبكة الإعلامية اهتماماً لافتاً للانتخابات الحاصلة، وأفردت لهذه الغاية ساعات طويلة من التغطية المباشرة والحية، مع شبكة مراسلين/ات منتشرين على كل الخريطة اللبنانية. وقبل موعد الانتخابات، خصّصت «الميادين» بشكل يومي مساحات تلفزيونية تحليلية، استضافت فيها وجوهاً صحافية ومرشحين من دوائر انتخابية مختلفة للوقوف على واقع التحالفات واحتمال الخسارة والفوز. وعزّزت من حضور مكتبها في بيروت، ولا سيّما على وسائل التواصل الاجتماعي، وإطلاقها صفحات خاصة بلبنان. فقد وصفت الشبكة الإعلامية العملية الانتخابية في لبنان بـ«المفصلية»، وركّزت في تغطيتها على واقع لبنان بعد الخامس عشر من أيار (مايو)، لأنّ شعاراته ستطال الداخل وكذلك الإقليم بحسب رأيها. وشدّدت في الوقت عينه على ما سمّته «معركة الخيارات التي تحدّد محاور الصراع في المنطقة»، بين قوى تناصر المقاومة، وأخرى تناهضها وتدخل ضمن المحور السعودي الأميركي. «الميادين» أيضاً وضعت السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تتزامن مع الانتخابات، من انهيار مالي، وتفجير لمرفأ بيروت، إلى جانب أزمات الدواء والكهرباء، والقطاع المصرفي، لتستكمل المشهدية السياسية والاقتصادية في البلاد.


النشرات الإخبارية... مشهد مغاير
مع إقفال صناديق الاقتراع عند السابعة من مساء أمس، بدأت مشهدية مغايرة بل جذرية تتبدى على بعض الشاشات. شاشات دأبت طيلة الأشهر الماضية على الترويج لمجموعات وتجمعات تحمل أسماء مختلفة، أدرجها هذا الإعلام ضمن سلة واحدة، أسماها «التغييريين»، وبنى على أساسها خطابه الإعلامي والانتخابي، وألغى مقابلها أي حيثية أو حديث عن قوى سياسية أخرى، بل عمل على أبلستها ومحاصرتها. فمع بدء ساعات المساء، وتظهّر الأرقام غير الرسمية، اسودّت الوجوه على هذه الشاشات، وخفت نبرتها التي علت قبيل الاستحقاق الانتخابي.


مثلاً، «الجديد» التي رفعت خطابها السياسي إلى أعلى درجة عشية الانتخابات، وتنبأت بتغيير حاصل في لبنان، وبأفول زمن الأحزاب، عادت وخفّضت لهجتها في مقدمة نشرة الأخبار المسائية، واعتبرت أن لبنان بات حبيس أوراق انتخابية، وأن هذه الانتخابات ستعطي «صورة أولية عن نواب المستقبل من دون مستقبل». هكذا، قرأت المحطة المشهدية الانتخابية وعادت إلى الواقع بعد بيعها الأوهام. وكمن يضع المسؤولية على الناخبين، قالت المحطة لهؤلاء بأن عليهم «العودة إلى حياة الطوابير» بفضل من أعادوا انتخابهم و«سينقبون عن رغيف الخبز»!. على mtv، لم يكن المشهد مغايراً، فقد اكتفت المحطة بإيراد رسائل سريعة من مراسليها المنتشرين في المناطق، لا سيما تلك التي تضم دوائر لـ«القوات»، من دون تلاوة أي مقدمة نشرة أخبار مسائية كما اعتادت، وانتقلت سريعاً إلى أحضان مارسيل غانم، الذي سبق ظهوره كمّ هائل من الإعلانات التي غابت عن القناة بشكل متفاوت طيلة فترة التغطية الانتخابية. إذ تولى دفة التغطية المسائية ومواكبة نتائج الانتخابات. غانم الذي بدا غاضباً، شكك في الانتخابات، واعتبرها مقامة «تحت قوة السلاح» وسأل: «هل هي انتخابات أم انقلاب». وأكد بعدها أن ما يجري يقع ضمن ما وصفه بـ «الانقلاب الكبير»! وعاد واستضاف إليسا، التي انتشر تصريحها على السوشيال ميديا، حيث أكدت أنها لن تنتخب «السلاح»، وانزلقت بالكلام وكادت أن تنطق بأنها لن تنتخب «الشيعة» في قريتها! وعلى otv، تخندقت المحطة أكثر فأكثر برتقالياً، وتناست باقي المشهدية الانتخابية. المحطة التي غيبت نشرة أخبارها، راحت تتنقل بين المناطق وحتى أصغر الدوائر، حيث التواجد العوني، متكئة على أرقام ماكينات «التيار الوطني الحر».


استعراض بصري
أبعد من المعركة السياسية، كانت هناك معركة أخرى تدور رحاها على الشاشات، وتتمثل في استعراض قدرات القنوات التقنية والبصرية. فقد تنافست كل من lbci، وmtv، و«الجديد» على تقديم ما لديها من إمكانات لوجستية وتقنية عالية، تظهّرت عشيّة الانتخابات، ووشت ببذخ مالي واضح. فقد استعانت هذه القنوات بشاشات ضخمة، ملأت الاستديو الذي بدوره اختبر التغطية المفتوحة بين أقسامه. إذ لجأت «الجديد» وlbci، الى هذه الاستراتيجية بفتح الاستديو الواحد الواسع وتقسيمه الى ثلاثة أقسام، تتنقّل الكاميرا في ما بينها: قسم يتعلق بقراءة الأرقام، وآخر للإحصاءات في الدوائر الانتخابية الواردة من الماكينات الانتخابية، وقسم آخر ملتصق بالتحليل السياسي والتعريج على نتائج هذه الأرقام، وآخر مشغول حصراً على طريقة الغرافيكس ينشر حركة الدوائر الانتخابية ومقارنتها بنسبة الانتخابات الماضية. هكذا، شكّلت التغطيات داخل الاستديو أشبه باستعراض للكاميرا التي دارت بحركة دائرية على الضيوف والمذيعين والشاشات العملاقة، ووظّفت هذه الحركة في كثير من الأحيان بطريقة خاطئة خرجت عن إطار التغطية الإخبارية، لتصل الى مستوى الاستعراض.