قبل سنوات، وبالتزامن مع «انتفاضة السكاكين» التي أطلقها الشهيد مهنّد الحلبي ورفاقه في القدس فقضَّت مضجع العدو، نشرَت القناة العاشرة الإسرائيليَّة صورةً لشاب فلسطيني قالت إنَّه متَّهم بالتحريض على عمليَّات الطعن. لم يكن الشاب قائداً في إحدى حركات المقاومة، بل ممثل صَنَعَ مع صديق له - وبأدوات بدائيَّة - فيلماً قصيراً استغرق تصويره وإجراء عمليَّات المونتاج له ثلاث ساعات فقط. كان إسم الفيلم «لبيكِ يا قدس»، وإسم الشاب برنجي المدهون. أمَّا الرسالة فكانت أنَّ الفلسطيني بات مدركاً لأهميَّة الفنّ في الصراع، مثل عدوّه تماماً! لم يدرس برنجي المدهون التمثيل، شأنه في ذلك شأن كثيرٍ من الممثلين في قطاع غزَّة الذي لم يكن يتوافر على أكاديميَّات متخصّصة، ولكن الصدفة التي أوجدته مع رفيقٍ له – قبل عقدَين من الزمن تقريباً - في «مركز النشاط النسائي» الذي يعنى بتأهيل المرأة والطفل، كانت كفيلة بتغيير حياته وتحديد مساره المهني في المستقبل. فلسببٍ ما، طلب القيّمون على المركز من الصديقَين تقديم شيء للأطفال، فلم يخطر في بال برنجي سوى اختبار قدراتهم في التمثيل قبل إعطائهم النصائح والتوجيهات اللازمة، وقد لاقى ما قدّمه إعجاب القيّمين على المركز، فطلبوا منه العمل معهم في هذا المجال، وهذا ما كان، لتستمرّ تجربته مع المركز أربعة أعوام. لم يتوقف برنجي طوال هذه الفترة عن التعلّم والتزوّد بكل ما من شأنه إغناء معلوماته ومهاراته في التمثيل مستعيناً بكل ما يقع عليه عبر الانترنت.
ولكن التجربة على غناها وأهميَّتها لم تشكّل فرصة عمل حقيقيَّة بالنسبة إلى شاب في طور تأمين مستقبله، فمع مرور السنوات وتقدّمه في العمر، كان لا بدّ من التفكير بواقعيَّة والبحث عن عملٍ منتجٍ آخر، ولم يكن هذا العمل سوى التجارة، بالقدر البسيط المُتاح لشاب يشق طريقه بصعوبة في قطاعٍ محاصر.
ولكن مرور السنوات لم يقتل الموهبة ولم يوقف الشغف، فبعد أكثر من عشر سنوات، وتحديداً في العام 2015، فاتَحَ برنجي صديقاً له يمتلك كاميرا عاديَّة برغبته في صنع «شيءٍ ما» لأبطال عمليَّات الطعن التي تكرَّرت في أكثر من مكان في الأراضي المحتلة، وبعد ساعتين فقط كان تصوير الفيلم القصير «لبّيكِ يا قدس» قد انتهى. وبعد ساعة إضافيَّة، أُنجِزَت عمليَّات المونتاج، ولم تمرّ ساعات على نشر الفيلم حتى كان قد حصد آلاف المُشاهدات، وفي اليوم التالي بلغ عددها مليون مشاهدة، ثمَّ ثلاثة ملايين في اليوم الذي يليه، وتناقلت الفيلم مواقع عربيَّة ومحليَّة فأسهمت في انتشاره أكثر، ما لفت الأنظار إليه وأدَّى إلى حذفه مراراً بتهمة الترويج للعنف ليُعاد نشره بعد كل مرَّة يُحذف فيها. كان هذا بمثابة انطلاقة مثاليَّة لعاشق التمثيل وخير تعويضٍ له عن سنوات الغياب الطويلة.
بعدها شارك برنجي مع ثائر أبو زبيدة وآخرين في المسرحيَّة الاجتماعيَّة التي تنتمي إلى الكوميديا السوداء «شريك العمر» (تأليف وإخراج حازم أبو حميد وانتاج مؤسسة إبحار/ 2018) والتي تناولت جملة مشكلات اجتماعيَّة تواجه الشباب كالبطالة وعدم القدرة على الزواج، وقد حقَّقت المسرحيَّة نجاحاً كبيراً داخل القطاع، وأشاد بها الإعلام الفلسطيني والعربي كتجربة شبابيَّة بسويَّة فنيَّة جيّدة.
أمَّا في الدراما، فقد كانت البداية مع مسلسل «حساب مفتوح» (كتابة أسامة زريد وإخراج محمد خليفة وإنتاج قناة الأقصى/ 2019)، وبعدها في مسلسل «عنقود» (كتابة محمد أبو شمالة وإخراج حسام أبو دان وإنتاج نيوسين/ 2020)، ثمَّ «ميلاد الفجر» (كتابة زكريا أبو غالي وإخراج حسام أبو دان وإنتاج نيوسين/ 2021).
ويغيب برنجي عن أحداث الجزء الثاني من «ميلاد الفجر» بعد استشهاد شخصيَّة «أسامة» التي يؤدّيها في الحلقة الواحدة والعشرين من الجزء الأوَّل، ولكنَّه سيكون حاضراً في العمل كماكيير، وهي ليست الحالة الوحيدة التي تشهد على تعدّد الاختصاصات لدى العاملين في هذا المجال في غزَّة.
ويرى في حديثه معنا أنَّ المشكلة الأبرز التي تُعيق الانتاج الدرامي في غزّة هي عدم وجود مدينة انتاج كما في دول أخرى مجاورة، في ظل المشاكل الكثيرة التي تعترض فريق العمل عند التصوير في أماكن عامَّة ومكتظة، ويرى أنَّه لو توافرت مدينة انتاج لكانت الدراما الفلسطينيَّة اليوم في مكان آخر مختلف تماماً.
ويؤكد أنَّ العوائق الحقيقيّة المرتبطة بالحصار لا يشعر بها الممثلون بقدر ما تعانيها شركات الانتاج التي تضطرّ أحياناً إلى تصنيع بعض المعدّات محليّاً بسبب الحاجة الماسَّة إليها وصعوبة إدخالها إلى القطاع، مع الاعتراف بصعوبة الوصول بما يتمّ تصنيعه محلياً إلى مستوى جودة مماثل لتلك المستوردة. ومن العوائق الأخرى تعذّر خروج الفنانين والفرق المسرحيَّة إلى دول أخرى عبر المعابر الرسميَّة، والتي خبرها بنفسه حين فاتته فرصة المشاركة في أحد المهرجانات المسرحيَّة في ليبيا بسبب عوائق حالت دون اجتيازه معبر رفح، وبعد معالجة الموضوع وتذليل العوائق جاء انتشار فيروس كورونا ليحبط مسعاه مجدَّداً ويقفل جميع المعابر لمدَّة طويلة.
ويرى المدهون أنَّ الفن عموماً والدراما على وجه الخصوص هما الوسيلة الأنجع لتوصيل الرسائل السياسيَّة وعرض القضايا المحقّة للشعوب، وأنَّ استخدام هذه الوسيلة من قبل الدول والشعوب في طرح قضاياها وتقديم رأيها ووجهات نظرها ونقل حضارتها هو من البديهيَّات المسلَّم بها على مستوى العالم ككل، فكيف يكون الحال بالنسبة للقضيَّة الأقدس والأنبل عبر التاريخ؟ ويقرّ بأنَّ العدو أظهر نجاحاً لافتاً في استخدام هذا السلاح، مذكّراً بالمسلسل الإسرائيلي «فوضى» المشغول بحرفيَّة عالية قادرة على إقناع المشاهد الذي لا يمتلك خلفيَّة كافية عن حقيقة الصراع بمظلوميَّة الصهاينة وبراءتهم وأحقيَّة قضيّتهم.
ويختم المدهون حديثه بالحديث عن الشخصيَّة التي يرغب في تأديتها مستقبلاً بعد أدوار متعدّدة جسَّد فيها شخصيَّة المدرّس والصحافي والمقاوم وغيرها، وهي شخصيَّة «البلطجي» أو «المشكلجي»، إذ يشعر أنَّه يستطيع من خلال تجربة مماثلة التأكيد لنفسه وللمشاهدين أنَّ قدراته لا ترتبط بقالب معيَّن ألزم نفسه به.