عمّان | على الحدود السّورية الأردنيّة، سيُغالبنا الظنّ بأنّنا ننوي، ضمنيّاً وبدون وعي مؤكّد، محاولة تنفيذ عمليّة انتحارية بسبب التفتيش الدّقيق والإجراءات التعقيديّة. مررنا بأربع مراحل تُفلّى فيها أمتعة المسافرين على مهل، كمن يبحث عن لا شيء أو أنّ تعقيد الإجراءات أمرٌ متقصّد بهدف ضبط عدد الوافدين إلى المملكة الهاشمية، بعد فتح الحدود مرّة جديدة، وبدء عودة العلاقات على أعلى المستويات بين البلدين. على أيّ حال، الوقت الطويل سيجعلنا نقرّر أن تكون تلك الزيارة الأولى والأخيرة عن طريق الحدود البرية. إضافة إلى الانتظار الطويل، تأتي الأسئلة التي توغل في الخصوصيّة أكثر عند معرفة بأنّنا صحافيون! - ماذا تحمل من أوراق؟.
- نتيجة فحص الكورونا في مختبرات دمشق، وإيصال الدفع الإلكتروني لفحص كورونا الأردني الذي سنجريه على الحدود، وموافقة شعبة التجنيد في سوريا معاليك، إضافة إلى إذن وزارة الداخلية الأردنية والنعمة الأزلية التي اسمها جواز السفر السوري، والبطاقات الشخصية، وبطاقات العمل الصحافي!
ــ ماذا ستفعل في عمّان؟
ـــ زيارة موقع تصوير مسلسل اسمه «حضور لموكب الغياب» (تأليف: محمد ماشطة وسيف عبد العزيز، وإخراج سيف الصمادي وبطولة: جهاد عبدو، ديمة بياعة، ريم علي، مازن الناطور، جفرا يونس، إياد حوراني، ومنذر رياحنة. إنتاج «أمالكو فيلم» تنفيذ «طلّة الأردن- سيف عبد العزيز»). العمل يحكي عن فلسطين إن كان يهمّك!
الجواب سيجعل التفتيش يزيد إلى درجة أنه كان على وشك البحث في الكومبيوتر المحمول!
بعد ثلاث ساعات، عبرنا أخيراً! كلّ ما نحمله في مخيلتنا هو تجميع لصور رفاقنا في أوروبا، وسط دهشتهم من الحدود التي تفصل البلاد هناك بخطّ مرسوم على الأرض! نحاول التقاط مشهد واحد يوحي بخصوصية المكان ونشره، لكننا لن نعثر على ما نبتغيه لحين الوصول إلى أرقى أحياء عمّان. لن يبدو ما سبق حدثاً ذا قيمة أمام الجملة التي ردّدها في اليوم التالي سائق التاكسي الذي سيتولى مهمة نقلنا إلى موقع تصوير المسلسل. بدفق وإيقاع ملفت، قال: «في الموقع سترى فلسطين. إنها أقرب من رمية حجر!»
كانت الجملة كافية لفهم المطرح الوجداني الذي ما زالت الأرض المحتلّة تحتلّه عند الشعب الأردني، كما كانت وافية لفتح خزانة الذكريات بدءاً من أيّام الدراسة الابتدائية، وكيف تربّينا على أن فلسطين عربية وستعود يوماً ما. ولا يعني شيئاً كل ما يحدث الآن من انهزام أمام صلابة هذه القاعدة ورسوخها حقاً في وعي من تربّى عليها. الطريق إلى مكان دوران الكاميرا سيمرّ انطلاقاً من وسط عمّان، إلى برج الحمام و ناعور، ثم حسبان، تليها مادبا... نمرّ خلالها في الخطابيّة والفيصليّة لنصل إلى جبل نيبو الحدودي مع الغور، والمطلّ على فلسطين. في منطقة اسمها المخيط، نرى البحر الميّت وأضواء البيوت التي تقبع تحت الاحتلال من قبل أن نولد.
يستقبلنا المشرف على الإنتاج فهر الرحبي، معه مدير إدارة الإنتاج خالد أبو زينة، ومهندس الديكور هجار عيسى. المفردات الفنيّة للعمل بغالبيتها سورية كذلك أبطاله الرئيسيّون.
الأردن يشكّل المحطة الأبرز في معالجة المسلسل للقضية


الحكاية تُعيد تدوير قصّة عاشتها عائلة المنتج فعلياً، في ثلاثينيّات القرن الماضي، ثم تتخطّى حدود الأردن نحو فلسطين، لتركّز على سلوك عصابات الأرغون والهاغاناه التي أسّست لقيام الكيان الصهيوني فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، أي ثلاثينات القرن الماضي. كما يضيء المسلسل على النضال الفلسطيني في ذلك الوقت. وكما هو معروف، فإن الأرغون (تلفظ: إرغون تسفائي لئومي) منظمة صهيونية شبه عسكرية وجدت في الفترة السّابقة لإعلان الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة عندما كانت خاضعة للانتداب البريطاني في الفترة بين 1931 و1948. الممثلون من أصحاب الخبرات يمكنهم التقاط اللهجات المتعددة وصوغ شخصيات مقنعة. كما أن مواقع التصوير تساعد في منح قيمة مضافة من الواقعية للقصة التي جرت في جزء منها في منطقة المفرق الأردنية، في حين توافرت للمسلسل ميزانية جيدة، وأحدث الكاميرات والأجهزة التقنية التي تتيح خلق صورة مبهرة.
في حديثنا معه، يوضح المخرج الأردني الفلسطيني الأصل بأنه معروف باسم سيف يوسف في مصر، كونه يقيم فيها منذ سنة 1996 وقد تخرّج من المعهد العالي للسينما، واشتغل في المحروسة متدرجّاً من مخرج مساعد، إلى مخرج منفذ، ثم مخرج أوّل، من دون أن تخوّله الفرص للعمل في بلاد الشام. لذا، لم يتردّد في قبول العمل كونه يلامس قضيته الأساسية، التي تربّى عليها وتمسّه شخصياً. يُضيف: «الموافقة على مثل هذه المشاريع التي تنطوي على مغامرة كبيرة وتتطلّب محاولة عميقة، تأتي من دون تفكير لضرورتها في مثل هذه الأوقات العصيبة، وحدوث خلل في الاهتمام الجماهيري العربي بالقضية الفلسطينية، نتيجة الحالة الإعلامية المسيطرة علينا». أما إن كانت المعدّات المتطوّرة ستساعد وحدها في خلق جذب بصري وإبهار على صعيد الصورة، فيُجيب: «من المؤكّد بأنها تساعد فعلاً في الوصول إلى نتيجة جيدة وتسهّل بعض المهام، لكنها تبقى جزءاً من حالة قوامها عناصر عدة، لا بد من تكاملها بدءاً من السيناريو، وصولاً إلى الحالة الجماعية التي تكوّن العمل الفني». وعن مدى رضاه عن النتائج، يقول: «صوّرنا ثلث العمل تقريباً وأشعر بسعادة فعلية تجاه النتيجة، وإن لم يكن هناك رضا كاملاً إلا أن الوضع سيتطور في الثلثين المتبقيين، لأن حساسية ودقة الموضوع الذي نعالجه، تجعلاننا نمسك ونغوص به أكثر مع الوقت».
أما كاتب النص محمد ماشطة، فقد كانت تفصله ساعات قليلة عن موعد طائرته إلى السويد. الفريق هنا بعثرته الحرب في عدد كبير من الدول. لكن الحديث المشترك قوامه الشام دائماً.
في تصريحه لـ«الأخبار» عن ماهية المقترح الحكائي، يقول: «يمايز العمل درامياً وتاريخياً بين الشتات الصهيوني الذي بدأ يتغلغل في فلسطين عبر الوكالة اليهودية بدعم عالمي، وبين الشتات الفلسطيني، وهو في أسوأ حال، راصداً قصص بعض القيادات الشعبية التي عملت بصدق لنصرة شعبها». وعن تشظّي الحدث نحو دول الجوار، يوضح: «يعتبر المقترح الحكائي بأن سوريا ولبنان والعراق ودول الخليج، هي مسارح عمليات امتدادية لزلزال فلسطين. إلا أنّ الأردن كان المحطة الأبرز في معالجات العمل للقضية، حيث نحكي قصصاً درامية لعائلة مسيحية عريقة (عوض الرحال السهاونة) قدمت لنا نماذج بيئية، وعلاقات مدهشة مع محيطها الإسلامي الواسع، مروراً بعلاقة غرامية غريبة من نوعها تحدث سنة 1926 بين مصطفى المسلم الأردني، وجولييت المسيحية الفلسطينية حيث التقيا في طبريّا وفق تدحرج حدثي غريب ومشوق».
أما عن التصعيد الحكائي للقصة والتحامها بالنضال الفلسطيني ضد العصابات الصهيونية آنذاك، فيشرح: «تتشكل فصائل النضال الفلسطيني في الأردن، فنرصد تفاصيل لم يتم طرقها درامياً سابقاً. يتزامن ذلك مع انقلابات مفاجئة في أنظمة حكم دول الجوار، مروراً بأيلول الأسود وصولاً إلى خروج الفصائل نحو سوريا، وانتهاءً في لبنان إبان اندلاع الحرب الأهلية بينها وبين ميليشيات مسيحية يمينية». من ناحية ثانية، يركز العمل على «رصد نماذج درامية مختلفة، إذ يختلف ياسر الذي لا يرغب بمحاربة الصهاينة، عن أخيه كايد الذي يرى النضال طريقاً وحيداً للتحرر. وبعد أن يكبر أطفالهما، يُعيد علينا التاريخ حكاية الأشقاء أبناء ياسر ومعهم هدلة ابنة كايد، والذين انتمى كل منهم إلى تيار سياسي مختلف، فيتصارعون في ما بينهم، تبعاً لمواقف قياداتهم».