خارجي/ غروب.المشهد الأوّل/الصورة الأولى: يطل رجل الأمن مقرفصاً، وواضعاً يده بوضعيّة أغنية أم كلثوم «أنا في انتظارك خليت/ ناري في ضلوعي وحطيت/ إيدي على خدّي...» إلى آخر الأغنية، ساهماً في ظلام الحفرة، ثم تدخل الكاميرا في الظلام.
لا يستوعب الرجل الحكاية بالضبط: «يا رجل، لقد شاهدت هذا المشهد بالضبط في فيلم The Shawshank Redemption وفيلم The Great Escape، لكنّ منتجي الأفلام يعلنون دائماً أن «أحداث هذا الفيلم لا تمتّ إلى الواقع بصلة، وأي تطابق بينهما هو من قبيل الصدفة لا غير»، فهل كانوا في هذه العبارة يستلموننا ويضحكون على عقولنا، أعني هل حدث ذلك حقاً؟ أظافر.. ملعقة.. نفق.. حفرتان.. ستة رجال.. غروب شروق.. عتمة.. اللعنة! أعتقد أنني بحاجة إلى قليل من الراحة، أو الاستقالة» و cut.
في فيلم The Hole Idea، يخترع البطل ثقباً محمولاً، يستطيع عبر وضعه على أي سطح، خلق حيّز مكاني ينقله من مكان إلى آخر. وينتهي به الأمر أخيراً، في السجن. لكن ماذا لو تمّ اختراع هذا الثقب المحمول في السجن نفسه، أثناء أيام وليالي الوحدة والعذاب؟ أي أن تتحوّل البداية إلى نهاية؟ هذا ما سيأتي الآن. مقترحَ سيناريو مسلسل لنتفليكس.
قبل حوالي أسبوع، دوّى خبر انتزاع ستة أسرى فلسطينيّين حريّتهم بقوّة، إذ نجَوا من أشدّ السّجون الإسرائيلية حراسة وتطوّراً، تاركين الخبر يقع على السّامع وقْعَ مشاهدةِ فيلم مغامرة أو رواية في أحسن حال. بل لم تخلُ ردّات الفعل من اقتراح تحويل القصة إلى مسلسل، ولو كان على سبيل المتعة التي حفّزتها التفاصيل. نجد أن الحدث لامس بذلك ركيزتين يختصّ بهما الأدب البحت: الفائدة المدموجة بالمتعة. أتساءل متعجّباً هنا بالتالي: هل أنا أكتب مراجعة عن فيلم أم عن واقعة حقيقية. لقد تضاءل بشكلٍ أو بآخر، الفارق بين وقْعِ الحقيقة والخيال. كأنك في أحد أفلام غودار، حيث يتدخّل الواقعي واليومي في الإطار المشهدي للفيلم. لكن العكس يحصل هنا: الأمر برمّته واقعي بل وجوديّ، والقصّة تنشر نفسها بنفسها قائلة: أستحقّ أن أُروى.
يفرض عليك الحدث استيعاب أن النتيجة التي ظهرت للملأ تحوي في داخلها حكايات عديدة تكاد لا تصدّق، إذ هي ليست فقط تلك الساعات القليلة التي رأيتَ فيها الخبر والصور. أعني هي قصة معنى أن تكون نجاتك مرهونة بالحفر، بالأصابع أو بأي شيء آخر حرفياً، قصة الظلام السري الذي تحفره خالقاً إياه وداخلاً فيه كأنه لاوعي الأرض، قصة الأنفاس المتدافعة الخافتة والتعرّق في القيظ، والحذر المقلق لأي صوت صادر عن وقع أقدام سجّان يقترب، قصّة المستقبل المجهول، هي باختصار إنشائي، قصة المَطهر الذي يسبق الولوج إلى الجنة أو الجحيم. وما دام الأمر هرباً من الجحيم في الأصل، فقد أصبح للدقّة مطهراً للحرية بمعنييها: النجاة من الأسر أو التضحية عبر الموت في سبيلها. لامس الأمر حدود الأدب، لقد قرأنا كثيراً عن أدب السجون، لكنّ في القصّة انزياحاً واضحاً عن معناه، قد يتوضح لنا أكثر مستَقْبَلاً على شكل سير ذاتية، إن شاء الناجون إخبارنا بالقصة الحقيقية لهذا الهروب الكبير.
إذا كانت قصة انتقام أو فرار «الكونت مونت كريستو» لألكسندر دوما قد خرجت من وقائع حقيقية مضافاً إليها خيال وحسّ كاتبها إلى حلة الأدب، ثم انتقلت بكامل رهجتها إلى كافة أشكال السينما، فإن عملية الأسرى الستة خرجت من الحياة الواقعية المأساوية، ملامِسةً حدود الأدب والسينما. متى تكون اللحظة التي تنفكّ فيها جرأة الخيال من الذهن، وتنصبّ بكامل زخمها في الإقدام الحيّ بالنفْس؟ إذ ليس الحدث فعلاً حركياً فيزيائياً فحسب، بل هو قبل أي شيء، فعل خيال نفّاذ، أنتج انزياحاته الدّلالية، جاعلاً على سبيل المثال، لأداة الطعام البسيطة - في الرواية المفترضة- الملعقة، وظائف مغايرة تفوق طبيعتها الفعلية، واهباً إياها القدرة على حفر الأنفاق. ألا يذكّرك هذا بفعلك الطفولي وأنت تلتقط وجه الشبه بين الرفش والملعقة، فتحفر في البرية - إن كان حظك حسناً وعشت فترة في الأرياف - زارعاً شتلة حبق مثلاً، أو جارّاً ساقية صغيرة من المياه إليك. إنها طفولة كامنة غذّتها الأرض وعقل راشد غذّته أساليب النضال المستمر، في مواجهة بين أسير وسجّانه.
إن الحدث البطولي هو بمعنى ما وبما أثاره من دلالات، على نقيض أدب السجون. إنه ضد أدب السجون تماماً حتى. قد يخطر لأسير ما «لماذا أكتب أدباً؟ لا أعتقد أنني مغرم بفكرة البقاء هنا عند هؤلاء الحمقى». تخيّل معي لو تهيأت الظروف والطباع لأحد كتّاب أدب السجون المعروفين، كم من المعالم الأدبية سوف تختفي. فلا «عزاء الفلسفة» لبوئثيوس، ولا ترجمة العهد الجديد لمارتن لوثر، ولا الكثير من أشعار أحمد فؤاد نجم، وغيرها الكثير في العالم العربي خصوصاً. الحدث كان أقرب لاسم آخر يُطلَق على أدب السجون، هو «أدب الأسير». إن من الفوارق الدقيقة بين هذا الحدث وأدب السجون، أنّ الأخير يتسلّح بالأسلوب للتأثير والإقناع، فهو أدب في النهاية وله قارئ مفترض وأساليب كتابية. أما الأوّل فقد ألقى حبكته في أيامنا الرتيبة هكذا متفجّراً كما هو، وترك لنا أن نتخيّل بأنفسنا كيفية إتمام الأمر، كأنك به قائلاً: «اقتنعوا كيفما شئتم، فعلنا ما توجّب ببداهة فعله» لا يهمّ بالتالي اقتنعنا بأي من الروايات المفترضة للحدث أم لا، وهل يهمّ ذلك حقاً؟ لقد تخطّت القصة القصديّة الأدبية، فهي أولاً وقبل أي شيء، انتحاء طبيعي نحو حريّة مستحقّة، ولا يهمّ العالم الخارجي في شيء، إلّا في ما يتعلق بعدوّ غايته أن يمسكهم ويعيدهم إلى السجن، أو حليف يساعد على مهمة الاختفاء. أبرا كادابرا. لقد وهبونا الحماس والخيال، هم الذين حفروا، ونحن وإيّاهم من دخل في الضّوء الذي في آخر النفق اللعين. عبارة هي كالتالي:
«- تأمّل في الضوء الذي في آخر النفق (كليشيه ها؟)
- لكن ما من نفق أمامي، لا يوجد غير جدار هنا.
- بالضبط، النفق سوف تحفره حفراً يا صديقي»
أن تفكّر عبر الحفر، نجاتك أحفورة حديثة/ قديمة، قدم انبثاق الكرامة في الإنسان. إن الالتقاء الحاصل بين المادّي والذهني، الحفرة والحرية، ليس وليد عبث أو ارتجالَ مقاربة أدبية محض. لقد قفز علم الأركيولوجيا (علم الآثار)، إلى ميادين العلوم الإنسانية منذ زمن على يد المفكر الفرنسي ميشال فوكو مثلاً، في منهجه البحثي، الأركيولوجيا الحفرية. وهو البحث المعمّق، بشكله العمودي، لقراءة الوقائع والوثائق التاريخية من جديد ابتغاء حقائق محجوبة، بل إنتاج حقائق جديدة أيضاً. يكون الإنسان وفق هذا النهج، موجوداً بفكرته لا بأثره الفيزيائي فحسب. وبمقاربة من خلال هذا الفكر، نجد فعليّاً في استقراء الحدث، أن فعل الوجود كان حقّاً من استحقاق الأسير لا السجّان، بغض النظر عن الظرف الآنيّ. كان الفكر معتملاً عند المسجون طوال الوقت. أمّا السجّان، ففي موقع المراقبة وردة الفعل فقط. بمعنى آخر، فالجدران والكاميرات وغيرهما من الوسائل المتطورة، كانت وسيلة السجّان في التفكير فقط، وليس فكرَه الحر نفسه. إن مسألة المسافة بين الأسير وغاية فكره هي مسافة صفر أيضاً، وفي ذلك وضوحُ الهدف الآنيّ المتوازي مع وضوح الهدف الأول: التحرر، خارجاً وداخلاً من رأبة العدو، الذي تتسع المسافة بينه وبين فكرِه إلى درجة الغياب. وفي نظرة مماثلة، طالعتنا في الأيام الفائتة، حادثة مشابهة عقليّاً، فمن خلال كوّة في الجدار، أردى فلسطينيّ آخر عبر مسدسه قناصاً، من المسافة صفر تماماً. هي دائماً مسافة الاشتباك، ليس اشتباكاً بين اثنين فحسب، بل أيضاً اشتباك بين الفرد وفكره الفردي، تأخذ منحى شحذ وصقل دائمين. إن الفكر النشط، أكان ظاهراً في أنساق معرفية واضحة أم لا، يتدفّق من أي فتحة تتوفر، في أي وضعية كانت، وتحت أي ظرف تقريباً. التراكم واضح إلى حدّ ملموس ومرئي، كأن الرمز أو المعطى يكاد يصير كائناً حياً، فالنفق المحفور، إن كان الستة هم من حفروه، أم أنه نتاج مجموعة متفرّقة من الأسرى، فلا تعارض، لأن الفكر واحد، والقضية واحدة: انتزاع الحرية التامّ.
يقول درويش في قصيدة «لا شيء يعجبني»: «يقول الجامعيّ: ولا أنا، لا شيء يعجبني./ درستُ الأركيولوجيا دون أن أجد الهويّة في الحجارة». لربّما لو رأى معنا ما رأيناه لأعجبه شيء كثير مما يحصل، أركيولوجيا النضال الحديثة، فلا إيجاد هنا للهوية، بقدر ما هو نحتها، والحفر نحوها في عتمة الاغتراب والقمع العبثي، لتكون الهوية من هذا المنظور: فراراً نحو الضوء البعيد.