ببساطة بعيدة عن الإيهام والتعقيد، تفكّك مسرحية «تدّني»، طبيعة الإنسان الداخلية، وعلاقاته مع الكائنات الحية الأخرى. مكان المحاكاة هو «الطبيعية»، حيث تنشأ علاقة بين إنسان حي، وعصفور، بعدما خاط أولهما جرح الآخر. مع مرور الزمن، تطبع مفرداتٌ كالـ «التعلق، الهوس، والامتلاك»، لغة التواصل بينهما. الفكرة هنا، أنَّه كلما ازداد سُمك العلاقة بين الكائنات الحيّة، ازدادت وطأتها على الآخر، وفقاً لمفاهيم إيكولوجية، تتعدى فيها الكائنات الحية، مواردها ووظيفتها الطبيعية.يرتبط النص في مسرحية «تدنّي» أو Man Fall، بطبيعة التجربة الحسية التي عاشتها كاتبة ومخرجة المسرحية رهف جمّال. النصوص مرتبطة بواقع صعب، فرضه المحيط والبيئة والطبيعة بعد سلسلة أحداث ومتغيرات عالمية ومحلية. كانت نتيجتها الفراق في أشكال مختلفة، كالغربة أو الموت جراء الأوبئة والانفجارات. تستحضر مسرحية «تدّني» هذه المفاهيم، تحت مظلة طبيعة الإنسان، وعلاقاته مع الطبيعة والكائنات الحية. ويكون محركها أنانية الإنسان، وتملّكه وتعلقه بالآخرين. كما تضع توليفة النص، صيغ التواصل النفسي، بين كائنين، بطريقة غير مألوفة، تؤدي إلى هوس أحدهما بالآخر. في اللاوعي الداخلي لمؤلفة العمل، جسّد العصفور، أحد أصغر الكائنات الحيّة، خياراتها المتمثلة بالتوق إلى الحرية.
من الدوافع التي حفّزت جمّال، للعمل على النص المسرحي، الشعور بالغربة، والعيش في خضمها، «قلّما نسأل عن شعور من يبقى بعد الفراق» تقول جمّال. فعادة، تحوم الهواجس حول من يفارق، «لكننا لا نبالي بواقع الباقين في المحيط أو الأرض أو البيئة». ما الذي يبقى في إحساس الباقين بعد الفراق؟ سؤال يحمله العرض المسرحي المرتقب. في ما يخص الكاركتيرات، لا يجسد كلٌّ من لين بواب، وشربل أبي نادر، مؤدّيا العرض المسرحي، الشخصية المسرحية بإطارها الكلاسيكي. تتبدل الأدوار والوظائف لكلّ منهما. فالممثل هنا، هو مجموعة أفكار، وتناقضات.
تتقصد مخرجة «تدنّي»، التأثير على الجمهور، عاطفياً. وتقدم للمشاهدين، واقعاً سيكولوجياً شاملاً، يطال الجميع. فموضوع العلاقات، والطبيعة البشرية، والبيئة، لا تُقدم وفق سياق قصصي. بل، في سياق معاصر، بسيط، وذي حساسية مفرطة. بالحديث عن الشكل المسرحي في «تدّني»، تقدم المخرجة، عرضاً وفق أسس «المسرح الفقير»، الذي أنشأه أحد أبرز رواد المسرح البولندي والعالمي غروتوفسكي. نرى أن السينوغرافيا تعتمد على التسجيلات الصوتية، والفضاء الخاوي، واللباس الأسود. شحٌّ سينوغرافي على الخشبة، يحوم الجسد على أرجائها، حاملاً إشعارات الأحاسيس والأفكار والتساؤلات المبعثرة للإنسان في إطار الأفكار التي تتبناها جمّال. التشكيلات الحركية الجسمانية، ليست ساذجة في هذا العرض المسرحي، وإنما حقيقية، صادقة، نابعة من المحيط الاجتماعي والبيئي. مثلاً، تشكل حركة الطيران باليدين، كوريوغرافيا الممثلين، في مشهدية فنية، تطلق العنان لمخيلة المتلقي، وتدعوه للبحث عن طبيعة الإنسان، وإعادة التفكير في شكل العلاقات قيد التحول. من خلال هذا الاستحضار، تتقصد مخرجة العمل، ترجيح كفة المستوى الفكري، على حساب المشهدية، التي تراعي الجمال الفني، لتقدم عرضاً، غير شعبوي أو جماهيري، وفق ما تؤكد لنا.
بالعودة إلى النص، على الرغم من أنّه مقتضب، ويُقدم في اللغة المحكية، لكنه يتضمن في بعض الأحيان، معاني لغوية وأدبية مستمدة من أشعار المتنبي، ونزار قباني، مما يزيد من حميمة اللحظات المسرحية. يدفع ذلك للسؤال: هل تتضمن النصوص التي يكتبها صناع المسرح اليوم، أي صنعة أدبية عالية؟ ولماذا تخوض مخرجة ومؤلفة «تدني» غمار كتابة النصوص بمفردها؟ علماً أن العمل، نال منحة فرقة «زقاق» في ما قبل، وتم العمل عليه بإشراف أعضاء الفرقة المسرحية اللبنانية، ويُستكمل اليوم مع الفريق التقني والممثلين، بعد إضافة تعديلات عديدة. فهل يمكن البناء على نصوص مسرحية مماثلة، لتحظى بالدعم وتشكل تغييراً في الواقع المسرحي المحلي؟

عرض Man Fall: الخميس والجمعة 26 و27 آب ــ الساعة السابعة والنصف مساءً ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـــ بيروت). للاستعلام: 01/753021