قبل عامين، أُجبر ما اصطلُح على تسميته بـ «قنوات الثورة»، على التماهي مع الخطاب الشعبي المستجد الذي خرج به حراك «17 تشرين»، والمتمثّل في نبذ الأحزاب واستخدام لغة جديدة على المنابر. راحت هذه القنوات تغيّب وجوهاً سياسية لطالما التصقت بهذه الشاشات، لصالح فتح الهواء للمنتفضين، وتكرار الشعار الشهير «كلن يعني كلن». إلا أنه سرعان ما تسلّلت هذه الأحزاب السياسية ووجوهها مجدداً إلى هذه المحطات، بعد شهر تقريباً على اندلاع التظاهرات الشعبية في المناطق اللبنانية. تسلّل كان طبيعياً أن يحصل، مع أحزاب وقوى سياسية تعدّ أصلاً من صلب هذه القنوات التي تقاسمت في مرحلة ما بعد الحرب المنابر الإعلامية وفقاً للصيغ الطائفية، أو ضمن «إعلام البيزنس». ومع لعبة الانتقائية والاستنسابية التي حلّت على هذه القنوات، في التصويب على أحزاب دون أخرى، والتمجيد ببعضها الآخر ــ قبل دخولنا الأزمة الاقتصادية الخانقة ــ عادت هذه الظاهرة وامتدّت لكن هذه المرة، بشكل ممنهج ومدروس، ومفضوح أيضاً. المتفحّص للأداء الإعلامي خلال الأشهر الماضية، وما تخلله من أحداث مفصلية وملفات سياسية واقتصادية دقيقة، وكيفية التعاطي الإعلامي معها، يلحظ حتماً الانتقائية والتسييس. ظاهرة ترافقت مع «تفقيس» برامج جديدة على الشاشة، انضمت إلى غيرها من الجوقات الإعلامية، وصبت في البحر عينه، أي التصويب على جهات سياسية دون أخرى، والاتّكاء على لعبة الأبلسة مقابل إخفاء الشوائب لدى الأحزاب التي تساندها هذه القنوات. ففي ظلّ تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي اتّخذت أخيراً منحى تصعيدياً في الشارع وزادت من معاناة اللبنانيين، نرى جلياً، أنّ كلّ هذه القنوات الحزبية، يستخدم الخطاب المساند لأوجاع الناس، وينفض يده من مسؤولية ما يحصل، ويتراشقه على شاشاته إزاء الطرف السياسي المناوئ له. هكذا، نرى مثلاً nbn، تتبنى صرخة الجياع، وotv تلقي مسؤولية التقاعس في تشكيل الحكومة على أطراف سياسية أخرى، دون «التيار الوطني الحر»، فيما تستمر «الجديد» في ضخ ماكينتها الإعلامية التحريضية ضد رئاسة الجمهورية والفريق البرتقالي، مستخدمة برامجها الحوارية والسياسية، ونشراتها الإخبارية، في وقت تستكمل فيه mtv حملتها على «العهد» و«حزب الله». في الأشهر الأولى من العام الحالي، صُوّبت السهام على «حزب الله»، ونظّمت حملة تحريضية بحقه (mtv وlbci)، ضمن حفلة استغلال للأزمة النقدية وقرصنة «القرض الحسن»، واتهامه بإنشاء «اقتصاد بديل» موازٍ للدولة اللبنانية، في مقابل التطبيل لحاكمية «مصرف لبنان»، وللمنظومة المصرفية وتلميع صفحتها، والتقليل من شأن التدقيق الجنائي. وها نحن نشهد اليوم ماكينة إعلامية تركّز سهامها في الدرجة الأولى على «التيار العوني» ورئاسة الجمهورية. علماً أنّ بلاد الأرز «تتمتع» بالتعددية الحزبية، التي تتمدّد يميناً ويساراً، إلّا أن الناظر في الأداء الإعلامي المحلي، يلحظ حتماً إسقاط ذكر باقي الأحزاب من التداول، والتركيز على جهة سياسية محددة. على سبيل المثال، قبل انتقال سلام الزعتري إلى برنامجه الخاص «مأخر بالليل»، وتحديداً في برنامج «ع غير كوكب» الترفيهي على mtv، بدا جلياً التصويب على «حزب الله» و«العونيين»، والحرص على عدم المساس بغيرهما من الأحزاب، لتنتقل هذه «العدوى» معه في برنامجه الجديد، الذي يمرر فيه بكثافة هذه الأجندة، ضمن قالب ترفيهي ساخر. ففي الحلقة الثانية مثلاً، يذكر الزعتري استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقائد الجيش جوزيف عون، ويعقب هنا بالقول: «استقبل الجنرال عون المنيح مش هيداك» في إشارة بالطبع إلى ميشال عون (المش منيح)، لتتوالى بعدها رسائل مسيّسة وموجّهة، تظهر جبران باسيل على أنه مستعد لإحراق البلد بهدف «المساومة على العقوبات التي طالته». وفي الحلقة الرابعة، نرى شريطاً يتضمّن استعادة لخطاب القسم لعون، مترافقاً مع صور الانهيار الذي وصلت إليه البلاد، في إشارة واضحة إلى تحميل طرف سياسي واضح نتائج ما يحصل. وبالانتقال إلى زميلته ديما صادق في «حكي صادق» (mtv)، نقع على «مصادفة» ربما، بأن جلّ حلقاته تصوّب على حزبين فقط: «حزب الله»، و«التيار الوطني» وأحياناً «حركة أمل». المتتبع لهذه الحلقات، يرى تبرئة واضحة لباقي الأحزاب، وعلى رأسها حزب «القوات» الذي وُصف في إحدى الحلقات بأن مشروعه «سيادي» بخلاف «العونيين» ذوي «المشروع العنصري والشوفيني والطائفي». وعلى «الجديد» التي يمكنها أن تترأس هذه الجوقة، قد لا تُحصى برامجها الموجّهة في هذا الإطار، بدءاً من «يسقط حكم الفاسد» إلى «البديل»، وباقي البرامج الحوارية والإخبارية، عدا الإعلانات السياسية (إعلان الكتلة الوطنية مثلاً). وعلى lbci، التي لا تُخرج خطاباً معادياً واضحاً بحق رئاسة الجمهورية، نرى أنّه تسلّل عبر البرامج المشتركة التي تبثها القناة مع منصة «بيروت سيتي» (يملكها بهاء الحريري) التي تواظب في برامجها الترفيهية تحديداً، على التصويب على المقاومة و«التيار الوطني الحر». في المحصلة، نحن أمام ماكينة إعلامية انتقائية مسيّسة، تهيمن على الإعلام المحلي اللبناني، تؤبلس أحزاباً وترفع من شأن قوى سياسية ومصرفية أخرى، لها اليد الطولى في ما وصلت إليه البلاد. تسقط عوراتها مقابل صورة «نظيفة» لباقي الأحزاب المتورطة في الوحول اللبنانية!