«فِكرٌ على ورق»، كان آخر كُتب رمزي النجّار. أراده «عودة إلى الذات»، وتعزيزاً لـ«التفاعل التواصلي». الكتاب صدر في عام 2018 ويتألّف من 100 كلمة، تُشكّل كلّ منها فصلاً، والكلمة التي ينتهي بها فصلٌ تكون عنوان الفصل التالي. تعمّد النجّار ترك صفحة فارغة قبالة كلّ صفحة كَتب عليها أفكاره، حتّى تكون حافزاً للقرّاء فيُشاركون أفكارهم حول القهوة، السفر، الشوكولا، الخطيئة، الحبّ... «وهل من نقمةٍ أو من نعمةٍ يتمتّع، بقدر ما يَهلَك، بهما الإنسان أكثر من قدرته على توليد الأفكار؟»، سأل في كتابه، هو «المهجوس» بالحوار والتواصل وتحفيز الروح الإبداعية لدى الأجيال.
لم يكن يوماً أعمى سياسياً أو يوافق على حملات خالية من الفكر

بعض الأشخاص يفرضون هوياتهم على مِهَنٍ، فتُصبح لا تُعرَف إلّا بهم. اختزل النجّار عالم الإعلانات والإعلام لسنوات طويلة، فأصبح واحداً من مرجعياته القليلة في العالم العربي... «وكان الله يُحبّ المُعلنين»، كما تقول المخطوطة التي علّقها في مكتبه العابق بالألوان واللوحات... ومجموعة السيارات (خاصة باللون الأحمر) الصغيرة التي كان يهوى جمعها، «والله يعين» من يوقِع واحدة منها. إضافةً إليها، يملك النجّار واحدة من أهم مجموعات القصص المُصورة، التي كان يختار جُملاً وصوراً منها ليصنع منها لوحة، «تاريخية هيدي»، يقول.
الرجل الفارع الطول، بجَسده الضخم وصوته الرخيم، نادراً ما كان يرتدي غير البزّة السوداء، ويلتذّ بتدخين السيجار الكوبي، قبل أن يُجبره قبل سنتين «نقّ» وَلدَيه مازن وغسّان الخائفَين على صحّته، على التخلّي عنه. في الشكل، عكس صورة رجل الإعلانات التقليدي، صاحب العلاقات المُتشعّبة. «لم يمر وقت طويل، قبل أن أكتشف أنّه خلف تلك الصورة، توجد أخلاقيات كانت في حينه عملة نادرة في سوق الدعاية»، تُخبر هند خالد التي تعمّدت العمل في شركة النجّار، «لأنّني كنت أسأل من أهمّ شخص في مجال الإعلان السياسي، ليأتي الجواب دائماً رمزي النجّار. كان أهمّ من أَنسن مفهوم الدعاية السياسية». يُضيف الإعلامي جورج غانم أنّ النجّار «يُمثّل حقيقة النهضة الثانية للإعلام والإعلان في التسعينيات».
ابن بشمزين - قضاء الكورة (1952)، تحوّل إلى الرجل القادر على «بيع الثلج لمن يعيش في القطب الشمالي». تُستخدم هذه العبارة في وصف النجّار، للتدليل على «شطارته» في الإقناع. موهبته الفطرية لم تبق مُشتّتة، فأثقلها بدراسته، وحصل على شهادة الماجستير في «الاتصال الجماهيري» وبكالوريوس في «الأدب المُقارن والتعليم» من الجامعة الأميركية في بيروت.
«أنا بالكورة، بتوصّي شي؟»، يسأل أحد المُتصلين النجّار، ليُجيب: «شِلح زيتون». ومن أرض الزيتون، «اكتسب جوعه الكبير للمعرفة»، يقول رئيس مجلس إدارة شركة «كوانتم كومونيكيشنز»، إيلي خوري. كان رمزي «موسوعة، وخاصة باللغة، قادراً في عشر دقائق على كتابة عشر صفحات»، فكان طبيعياً أن يؤلّف ثلاثة كتب. غزير الإنتاج «وسريع البديهة». في إحدى المرّات، «اخترعنا الشعار لأحد الزبائن ونحن في المصعد نتّجه لمقابلته». رمزي النجّار يثق بنفسه إلى درجة «لا يضطر أن يُعيد قراءة ما كَتب». وأهميته تكمن في قدرته على «إنجاز إعلان صغير لماركة علكة مثلاً، وفي الوقت نفسه إنجازه مشروعاً لأهم مؤسسة عالمية. يعرف الأرض ماذا تُحبّ، وماذا يُعجب النُّخبة». يُضيف خوري بأنّ رمزي كان يكتب الإعلانات «باللغة العربية وأنا باللغة الإنكليزية. هو يسترسل، وأنا أختصر. هو باله قصير ويُريد إنجاز المشروع بسرعة، وأنا على العكس منه. بعد فترة تعلّمنا «إدارة» الاختلاف حول وُجهة نظر، أنا أهزّ برأسي، وهو يُدير ظهره». يُظهر ذلك جانباً من شخصية النجّار، فمهما بلغ الخلاف والاختلاف مع أحد، لا يقطع العلاقة أبداً. إنسان حسّاس، يتوقّع أن يُبادله من يهتم لأمرهم مستوى العاطفة نفسه. ولكنّه كان في الوقت ذاته «صعباً»، عنيداً. من «سيئات» الراحل، ما يُذكر عن «تعبيره عن رأيه بفجاجة، وهذا الجانب السلطوي من شخصيته قد يُنفّر البعض».
ركّز على الاستشارات السياسية، لاقتناعه بأنّ مهنة الإعلانات انتهت


شكّل رمزي النجّار وإيلي خوري سنة 1989 شراكة إعلانية، كانت الأهمّ في لبنان، فـ«أكلت السوق». ولكن قبل توقيع هذه الشراكة، كان رمزي قد شَرع في بناء مملكته منذ السبعينيات، وإنجاز الإعلانات... كـ«Yes، تلاتة بواحد»، أحد أشهر الإعلانات التي علقت في أذهان المستهلكين في لبنان لسنوات. ثمّ دخل إلى عالم التلفزيون، واختار الإعلامية جيزيل خوري لتُقدّم برنامج «المُميزون» على شاشة «ال بي سي» في أواخر عام 1987. تقول خوري لـ«الأخبار» إنّ الجمهور «تعرّف إليّ بفضل رمزي. كان شخصاً أساسياً بكلّ مفصل من حياتي، لا أعلم كيف سأعود إلى بيروت وهو غير موجود». صنع النجّار «المُميزون» بكل تفاصيله: من الفكرة إلى اختيار الفقرات والضيوف، «كنّا أول من قمنا بالحساب الفوري، وسوق عكاظ، عمّمنا المادة الثقافية لدى كلّ الفئات الشعبية». تضحك خوري، مُتذكّرة حين فاز الأديب المصري نجيب محفوظ بجائزة نوبل، «ظنّوا لأنني كنت مقدمة المُميزون، لديّ اطلاع شامل في الآداب، فاختاروني مع وليد، شقيق رمزي لتقديم الجائزة. تعرّفت إلى نجيب محفوظ بفضل رمزي». وفي كلّ المحطات المستقبلية، وخلال عمله على «الرؤية السياسية» لعدد من البلدان، «كان يختارني لإجراء المقابلات. كان يُساعد ويعرف كيف يُحافظ على الرابط مع الأشخاص الذين يهتم لأمرهم».
يُلملم مُدير الإبداع في شركة النجّار، وشقيق زوجته، ريمون مرعب حُزنه ودمعاته، مُتذكراً سنوات الثمانينيات. «بدأنا العمل سوياً في شركة Lead لجاك الصرّاف، قبل أن يُصبح رمزي، ما بين عام 1984 وعام 1989، شريكاً في شركة Trust مع ألان بريناس ونزيه مسلّم». في عام 1989، عَرضت شركة «انتر ماركتس» على النجّار وإيلي خوري دمج شركَتيهما والانضمام إليها. بالنسبة إلى خوري، «وجدناها الفرصة المثالية، ولا سيما بعد أن اندلعت حرب التحرير». في كانون الثاني 1992، أطلقا شركة «ساتشي اند ساتشي، وولعت. ما بقي زبون ما أخدناه. رمزي كان بيلدوزير في العمل». من زبائن ذلك الزمن، مؤسسة كهرباء لبنان أيام الوزير الراحل إيلي حبيقة، «فصمّمنا لها شعار LebanON/Off، قبل أن يأخذه التيار الوطني الحرّ». شركة «سوليدير» كانت من زبائن النجّار، ولها صمّم «بيروت مدينة عريقة للمستقبل». من هذا الباب، تطوّرت علاقته برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، فتحوّل إلى صديق العائلة، الحارس أيضاً لأسرارها البسيطة، والحاضر في مناسباتها، وبقي حتى الأشهر الأخيرة «مستشاراً غير رسميّ» لرئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري.
سنة 2000، أسّس النجّار وخوري مجموعة «كوانتوم»، واشتغلا على الحملة الانتخابية لرفيق الحريري بوجه الرئيس إميل لحود، فكان شعار «قولنا والعمل» مع العلم اللبناني. حصل هجوم 11 أيلول 2001، «فكان أهم إنجازات رمزي الشعار الذي نُشر في وسائل الإعلام الأميركية: We the people - نحن الشعب. كمية رسائل الشكر الأميركية التي تلقّاها مكتب رفيق الحريري كانت مرعبة»، يقول خوري. لم تُعمّر شراكة «كوانتوم» أكثر من سنتين، لأسبابٍ ربّما يُفضّل رمزي أن تُطوى معه. يؤكّد خوري «بقاءنا صديقين، وتعاوننا في عددٍ من المشاريع، آخرها ما كنّا نُحضّر له قبل أسبوعين من دخوله المستشفى».
يُخبر ريمون مرعب أنّ النجّار أراد الابتعاد عن الإعلانات «والتركيز على الاستشارات السياسية، فأسّس S2C». لماذا؟ يُجيب بأنّ النجّار كان «مُقتنعاً بأنّ مهنة الإعلانات انتهت». حَصر أعماله بتنفيذ «الرؤية السياسية» لحكومات عربية ومؤسسات وسياسيين، فكانت أبرزها مشاريعه في الأردن وعُمان وقطر والسعودية. لم يكن مُحرّكه «مادياً»، وأدخل مفهوماً جديداً بأنّه «يُقدّم نصيحة» ولا «يبيع إعلاناً». من عَمِل معه، يؤكد أنّه لم يكن يوماً «أعمى سياسياً أو يوافق على حملات خالية من الفكر، ومن دون أخذ الرأي الآخر في الاعتبار».
شارك قبل خمس سنوات في تأسيس مجموعة «كلّنا إرادة»، متولياً الاستشارات في الشقّين السياسي والإعلامي، ولكن لم يلبث أن ابتعد عن المجموعة، مُعبّراً في أكثر من لقاء عن انحرافها عن الدور الذي تأسّست من أجله. أما في السنة الأخيرة، فانغمس النجّار في المشاركة في التحضير لمركز دراسات، وتأسيس جامعة البلمند - فرع بيروت، وكان يُفترض أن يكون عميد كلية الإعلام فيها. أما في شركة «S2C»، فالاتكال على «الجيل الجديد» فيها... يثق بالشباب وبقدرتهم على الابتكار ويُشجعهم على طرح الأفكار، ولو كانوا من «أصغر» الموظفين. هؤلاء أصلاً كانوا «شركاء» في الشركة، يملكون حصصاً فيها.
سنة 2020 حلّت صعبة على رمزي النجّار. في أكثر من مرّة، شكا غياب الإلهام وعدم إيجاد فكرة لكتابه الجديد. «رمزي إيجابي، بسّ يمكن كان الوضع أكبر منّو. صار متقاعداً نفسياً، معتبر ما بقا في شي محرز»، يذكر إيلي خوري. خاف من انتشار «كورونا»، فاتخذ احتياطاته، ولكنّه أُصيب به. أول من أمس، أتت نتيجته سلبية بـ«كورونا»، إلا أنّ جسمه كان قد ضعف، فلم يقدر على المقاومة. تُوفي رمزي، الذي كان «يُركّب نكتة من كلّ جملة»، ويُحبّ الحياة بكلّ ما فيها من مأكل وموسيقى جاز وبلوز وأغاني الرحابنة ومسرحيات زياد الرحباني، وكان يُعوّل دائماً على أنّ «كيس اللبنة يبدأ من فنجان صغير فيه روبة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا