حجزت الممثلة البريطانيّة فيونا أوشونيسي مكانة لا تُنسى في تاريخ الدراما التلفزيونيّة (البريطانيّة) عندما لعبت شخصيّة جيسيكا هايد في موسمَين متتاليين (2013، 2014) من مسلسل المؤامرات الغرائبي «يوتوبيا» على تلفزيون القناة الرابعة البريطاني (إخراج مارك موندين)، لا سيّما بعدما تحوّلت صيغة السؤال الذي يتكرّر في المسلسل: «أين جيسيكا هايد؟» إلى لازمة تتردد على ألسنة المراهقين وقتها، كما على حوائط الشوارع الخلفيّة. في أجواء يغلفها مناخ كليّ بريطاني كئيب لا يخفى، ومشاهد ملوّنة متعاقبة أشبه بلوحات سُرقت من رسوم الفنان الهولنديّ الشهير بييت موندريان (1872 – 1944)، في خلفيتها موسيقى طليعيّة غامضة (من إبداع كريستوبال تابيا دي فير)، قدّمت أوشونيسي ومعها مجموعة لا تنسى من الوجوه البريطانيّة المحضة (أديل أختار، بول هيغنز، ناثان ستيوارت جاريت، الكسندرا روتش، أوليفر وولفورد، اليستر بيتري ونيل ماسكل) أداءً دراميّاً مذهلاً لقصّة خياليّة وحشيّة وأحياناً كوميديا سوداء في حوارات قصيرة بليغة (النص كتبه دينيس كيلي)، عن مؤامرة سريّة تنفذّها جهات غامضة مقتدرة من خلال مجموعة كوارث مرّوعة تصيب العالم كان تنبأ بتفاصيلها قبل حدوثها رسام مجهول أوردها في مخطوطة لرواية مصوّرة (كوميكس) أطلق عليها مبدعها اسم «يوتوبيا – أي مدينة مستقبل مثاليّة».
في «يوتوبيا» المسلسل (12 حلقة مناصفة بين الموسمين)، تقع مخطوطة الـ «يوتوبيا» المرسومة هذه في أيدي مجموعة من هواة الكوميكس الهامشيين الذين التقوا من خلال منتدى على الإنترنت، قبل أن تخرج الأمور بسرعة عن نطاق السيطرة عندما يجدون أنفسهم مطاردين بلا رحمة من قبل «الشبكة». وهي منظمة خفيّة من متنفذين لهم أيدٍ ممتدة على ما يبدو في كل مكان تسعى لاستعادة المخطوط بكل الوسائل.
لقي المسلسل استقبالاً حسناً من النّقاد وقت إطلاقه، ووصفوه بـ «العمل المظلم والغامض والمثير»، و«الخيال الرائع الذي يجعل من كابوس القرن الحادي والعشرين شيئاً جميلاً»، مع ثناء كبير على تقنيّة صوره المذهلة، وإن أبدى قليلون تحفظّهم على بعض مشاهد عنف مقذعة – لا سيّما مشاهد مذبحة تتم في مدرسة ثانوية – اعتبروها استعراضيّة، وغير مبررة دراميّاً، إضافة إلى انتقادات حول عنف «لغوي» شديد، وسلبيّات مشاركة ممثلين أطفالاً في مسلسل موجه حصراً للكبار.
وقد وظّف نص «يوتوبيا» الأصلي أحداثاً واقعيّة عديدة يسهل ربطها تلقائيّاً بشكل ما من المؤامرة ضمن سياق المسلسل، بما في ذلك لقطات حقيقيّة بشأن تلك الأحداث (أغلبها يعود إلى فضاءات نهاية عقد السبعينيّات) ومنها حوادث اغتيال ألدو مورو (رئيس وزراء إيطالي يعتقد أنه قتل على يد مافيا يمينية)، وكارمين بيكوريللي (صحافي إيطالي كان يحقق بحادثة اغتيال ألدو مورو)، وريتشارد سايكس (دبلوماسي بريطاني قتل لأسباب غامضة)، وإيرينيف (نائب في البرلمان البريطاني من طاقم مارغريت تاتشر ووزير الظلّ لشؤون إيرلندا في حكومتها يُعتقد أن ثواراً إيرلنديين جمهوريين قتلوه بتفجير سيارة متعمد). كما أُشير أيضاً إلى حادثة سقوط الرحلة 841 لطيران الـ TWA، والانهيار السريع لحكومة حزب العمال البريطانية خلال عشرة أيّام ماراثونيّة في 1979. وقد اضطرت قناة التلفزيون الرابعة بعد اعتراض معنيين، لا سيما أسر ضحايا عمليّات الاغتيال، إلى إصدار بيان رسمي حول إيراد تلك الحوادث الغامضة في سياق مسلسل عن المؤامرات السريّة. وقالت في البيان: «إن «يوتوبيا» عمل خيالي ليست فيه أيّ نيات لإلقاء اللّوم على أحد بخصوص أي من جرائم الاغتيال» التي لم تُفك أسرارها بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود. وعلى كلّ، بدا أنّ هذا الجدل كان كافياً لدفع القناة البريطانيّة إلى إلغاء المسلسل رغم نجاحه الظاهر. أمر سبّب حينها الخيبة لدى كثيرين، تفاءلوا لاحقاً عندما علموا بأن قنوات ستريمينغ أميركيّة (HBO بداية، ثم Amazon) اشترت حقوق المسلسل، وستعيد تقديمه بصيغة محدّثة مع إمكان إضافة موسم ثالث. وهو ما حدث بالفعل في أيلول (سبتمبر) الماضي.
الإصدار الجديد من «يوتوبيا» يعيد صوغ حكاية النسخة البريطانيّة بتصرّف، وبطاقم ممثلين أميركي في أجواء مكانية أميركيّة مع خفض ملحوظ في مستوى تعقيد الحبكة وجرعة العنف فيها كي يمكن تسويق المسلسل لقطاع جمهور المراهقين والعائلات (الأميركيّة) مع بقاء الثيمة المركزيّة واحدة للنسختين حيث مجموعة من مهووسي روايات الكوميكس تكتشف «يوتوبيا» وهي مخطوطة غير منشورة لرسام غامض. نعرف لاحقاً أنّ الأخير كان أحد مهندسي خطّة لمواجهة أنتروبيا انهيار الكوكب بسبب التزايد المتصاعد في أعداد السكان ونفاد الوقود الأحفوريّ. إشارات لمؤامرات مستقبليّة بدأت بالتحقق، فيما تحاول جهة مشبوهة الوصول إلى تلك المخطوطة بأي ثمن، لتتكشّف مع تقدّم الأحداث وقائع مؤامرة عالمية وخطوط شبكة سوداء. وهذا كلّه نظريّاً لا غبار عليه.
لكن العالم في 2014 هو غيره العالم في 2020. وإعادة تقديم «يوتوبيا» بنسخته المتأمركة جاء كارثياً بكل ما للكلمة من معنى. ليس فقط لناحية النتائج الفنيّة المخيّبة للآمال في كل شيء، أقلّه مقارنة بالنسخة البريطانيّة الأصل: طاقم الممثلين، والأداء والتصوير والموسيقى والنص فحسب، بل وهو الأهم بسبب ذبول صيغة المؤامرة - المحدثّة - التي يطرحها المسلسل مقارنة بالواقع في أميركا كورونا / ترامب 2020، إلى درجة أصبحت معها الحكاية كأنّها كاريكاتور باهت للوضع القائم.
في «يوتوبيا» المسلسل الأميركي، يتم إقناع عامّة الناس بأنّ هنالك تفشّياً لفيروس قاتل جديد. يتم قتل بعض الناس بالفعل، وتعزى وفاتهم لذلك الفيروس المزيّف، ما ينشر حالة من الرعب العام يعلن على إثرها بأنّ هناك لقاحاً يمكن أن يهزم الفيروس، وأنّه بمساعدة النخب العالميّة والمشاهير ومنظمات المجتمع المدنيّ غير الحكومية وحكومات العالم، سيتم حقن كل شخص على كوكب الأرض بهذا «اللقاح» في أسرع وقت ممكن. لكن المفاجأة أن اللقاح صُمِّم لتعقيم جميع البشر، ما عدا فئة مختارة منهم، وهكذا ينخفض عدد سكان العالم من 7.8 مليارات إلى حوالى 500 مليون في جيل واحد، مبشراً بعهد جديد من الوفرة للنخبة.
ذبول صيغة المؤامرة التي يطرحها المسلسل مقارنة بالواقع في أميركا كورونا / ترامب 2020


مأساة توقيت عرض «يوتوبيا» بهذه الصيغة وفي هذا الوقت تحديداً لا يمكن التّغلب عليها مطلقاً. فالعالم يئنّ من تفشي وباء قاتل، في حين أنّ هناك عدداً مذهلاً من الأميركيين (تحديداً كما غيرهم بالطبع) يصدّق أن هذا الوباء هو خدعة ذات دوافع سياسية، يضافون إلى عدد مذهل بنفس القدر يعتقد أنّ اللّقاحات المعولمة تتسبّب في ضرر مقصود لمن يحقن بها. ثمّ تأتي خدمة الستريمينغ التي تدخل كل بيت وتقول لك هذه نسخة من مسلسل بريطاني عن مخطوطة رواية كوميكس توقعت ذات الجائحة الحاليّة كان قدّم للجمهور قبل سبع سنوات من تفشي فيروس كورونا. أي رسالة تلك ترسلها للعائلات والمراهقين؟
ربّما ليست خطيئة طاقم النسخة الأميركيّة من «يوتوبيا» (كتبتها جيليان فلين) أن العالم يعيش هذه الحالة من الفوضى التامّة. وربّما كان على خدمة «أمازون» للستريمينغ تأجيل إطلاق المسلسل أو حتى ابتلاع السكين وإلغائه بالكامل. لكن بالنسبة لنا نحن عشاق النسخة البريطانيّة بكل ما فيها من عبقريّة، فإن جناية الأميركيين على أملنا بتجدد «يوتوبيا» لا تغتفر. النسخة الأمازونيّة عديمة الذّوق، الشخصيات مسطحة وأداء الممثلين غير مقنع بالمرّة. تقنيّة الألوان لا تقترب من الأصل، وحتى الموسيقى التصويريّة تاهت تماماً. اللعنة، كأنّ هذه الإمبراطوريّة الفاجرة تخصصت في تدمير كل يوتوبياتنا، حقيقيّةً ومتخيّلة.

* «يوتوبيا» على «أمازون»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا