مرتبكة بين أوراقها وعاجزة عن الإجابة بسلاسة عن أي سؤال يطرحه عليها المقدم، تطل السيدة الستينية المتأنقة على شاشة لبنانية. ثم متلعثمة في قراءة ما تقول إنها أُلهمت به، تملي على اللبنانيين سلسلة من التوقعات المُحبِطة لمواطن يهزِّئه يومياً مسؤولوه بأخطائهم الفادحة وعجزهم المذهل عن تدارك أزمة هي الأسوأ في تاريخه. وسط العاصفة، وفي توقيت مُريب، تخرج من يروَّج لها على أنها سيدة التوقعات، لتبيعنا مزيداً من الخذلان والخسائر وتستنزف آخر آمالنا في النجاة وتبتزّ حيلتنا. في بلد يثقلنا بالخيبات كلبنان، يتسيَّد باعة الرعب شاشاته المحلية، فتمرِّر مَن تقدِّم نفسها حاملة الساعة الزمنية وآتية من عالم الغيب رسائلها المخيفة للبنانيين. وحده القطاع المصرفي المأزوم حقيقة نجا من مصائب صاحبة التخيلات المستقبلية التي بدت في المبالغة بالتفاؤل واحدةً من أعضاء جمعية المصارف المسؤولة عن حالة الانهيار. وسط حديثها عن تهديدات أمنية وبطالة وإفلاس وجوع توجه «البصّارة» رسالة سياسية بأن لا يكون هناك مسّ بالودائع المصرفية.
حدسها أخطرها كذلك بتثبيت رسمي جديد لسعر الصرف تركت توقيت تحققه مفتوحاً على عامين. واللافت كي تغير المتنبئة أقنعتها في كل ظهور، غالباً ما تقرأ توقعاتها السلبية بحماسة ونبرة حادة، لكنها هذه المرة حاولت خداع المشاهد بالهدوء ولطافة الحديث عن الأمل لامتصاص صدمةِ ما حُمِّلت به من كتابات فجّة عن المرحلة المقبلة.
لكن من هي هذه السيدة التي تتنافس الشاشات على استضافتها لتتشارك معها لعبة التحريض على هزيمتنا معنوياً ومحاربتنا بالذعر؟ الظهور الأخير لـ«المُلهَمة» تسبّب في كثير من الإحباط والهلع بين اللبنانيين، إذ أخبرتهم المتنبِّئة عن اعتداء إسرائيلي وشيك، وانخفاض مخيف لقيمة الليرة مقابل الدولار، محاولةً تخفيف رسائلها المسمومة بعبارات تشجيعية ليست في الواقع مدعاة للتفاؤل.
في علمَي النفس والاجتماع تفسيرات دقيقة لتفاعل الجمهور مع توقعات لا تستند إلى أيّ معطيات مدروسة أو تفسيرات علمية. يسأل العاقل فينا عن سرّ إصرار الإعلام المحلي بأغلبه على الترويج لمتباهية ومتعجرفة يصعب عليها محادثتنا عن تخيّلاتها من دون قراءتها عن الورق، إن هي أحسنت قراءتها، وهي إمكانية تغيب عن مجمل زملائها من سادة التنجيم الذين يخفقون في الحديث، ومع هذا يبهرون الناس كثيراً.

الإعلام والقانون والمواطن
للعرافة وأصدقائها من عرّابي الشؤم، دور في مخاطبة الجمهور في لحظة حساسة يخشى فيها الناس تدهور حياتهم الاجتماعية والاقتصادية مع التهديدات المعيشية الحادة التي يواجهونها. هم يستغلون أثر الضغوط المستحكِمة فينا والاندفاع الفطري للبحث عما يطمئن الإنسان على سلامة بقائه، فيستفيدون من حالة القلق التي تُضعف القدرة على المواجهة ويخوضون معركة كسر الإرادة.
لا تجيد المتنبئة الخوض في حقائق الأمور ولا تحسن تفسير توقعاتها. يسألها المقدّم بجدية الباحث عن رؤية متكاملة للمستقبل، لكن العرافة لا تساعده في إجلاء الغموض عن تخميناتها ذات الأوجه المتعدّدة تفسيراتها. باضطراب تنقله إلى المشاهد، تتابع لساعتين تلقيننا خرافاتها بلبوس الخوض في المجهول لتغذية حالة الانهيار القاسي.
يعتمد ثنائي الإعلام والتنجيم على هذه النظرية في خرق البيئة المجتمعية، فيفرضان علينا تحدّياً صعباً، ولكنه ليس بجديد، مع تخييرنا بين العلم والمعرفة أو الجهل والوهم. يغيب عن الإعلام هنا، كواجهة للمجتمع، دوره التوعوي والتثقيفي مقابل انسجام كامل في محاربة النضج والتعقل، مع إفساح المجال للتوقعات الخرافية بدلاً من تقديم معالجة منهجية وعلمية للواقع بما يربط بين مسؤولية الإعلام ووعي المجتمع.
اعتماد التلفزة المحلية على تمويل خارجي، يفسّر مساعي الانحدار بمستوى المشاهد مع استبدال أصحاب الاختصاص والخبرة بمنجِّمة تشحن اللبنانيين وتزيدهم توتراً. هذا التواطؤ المغلَّف بلعبة نسب المشاهدة العالية، يجعل معظم المؤسسات الإعلامية أقل وفاءً، مهنياً وأخلاقياً، للإنسان اللبناني أولاً، ويضع الأمن الإعلامي في موازاة الأمن الاجتماعي.
وفي قانون العقوبات اللبنانية ما يحاسب كل عمل يؤدي إلى ضرب الثقة بالدولة والأمن والعملة الوطنية ويضع مُسبِّبه أمام المساءلة القانونية. ويعتبر ظهور العرّافة ومساهمتها في بث الإشاعات عن أمن المناطق اللبنانية وانهيار الليرة بمثابة إخبار أمام الأجهزة الأمنية يتطلب تحركاً جاداً، فيما يعتبر غياب هذا الإجراء تفلتاً من تطبيق القانون ويترك تساؤلات عن جهة ما تغطي هذا التجاوز.
السخرية التي حفلت بها مواقع التواصل الاجتماعي بُعيد المقابلة تعكس مستوى عالياً من الوعي لدى اللبناني، إذ استطاع التحكم بجزء من قواعد اللعبة بعدم التسليم ورفض التصديق. هذه الحالة التي يعرف اللبنانيون إبرازها جيداً في المواقف الداخلية الحساسة، أبهتت فظاعة التوقعات وأفقدت المنجمة كل بهجتها في التنبؤ بالكوارث، وهي في تكرارها ستفقدها نجوميتها كذلك.
المسؤولية التالية تقع عند موقف حاسم بالمقاطعة وعدم الاستماع، وبالتالي عدم المشاركة في إذلال المواطن بخطط ملقنة يراد أن يطابق بها مستقبله، فيخاف ويرتبك أمام التهويل بما هو أفظع أو يطمئن ويرتاح لما يجب تسكينه من ملفات. خطوة تُميت حُجَّة الإعلام المحلي بنسب المشاهدة المرتفعة وتقتل تنافسيّته على الترويج لمنجمين لا يملكون أياً من أدوات التخصص والمعرفة تؤهلهم لمخاطبة الجمهور.
قانون العقوبات اللبنانية يحاسب كل عمل يؤدي إلى ضرب الثقة بالدولة والأمن والعملة الوطنية


كل هذه المعطيات مجتمعةً تضع الإعلام اللبناني في مواجهة هوسه بخرق المجتمع على حساب تجارة مزدوجة بالزمن كما بمعنويات اللبنانيين. تقديم هذه النماذج التي لا تملك في رصيدها غير الإشاعات الضخمة والتهويل، يسمح بالتسلل إلى مخاوف المواطنين والهيمنة على عقولهم عبر جملة من المغالطات غير الواقعية التي تتركهم أسرى للقلق من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
هذه النتائج إذاً تجعل الخرق غايةً مدروسةً، ومطلوبة وغير عفوية. في لبنان تحديداً، يعتبر الخوض في المجهول خطةً ذكية لتعزيز الانقلابات والتغيرات. فالإمعان في إثارة الرعب في الداخل من حالة عدم الاستقرار عبر الحديث عن مواجهات واضطرابات لم يسبق أن شهدتها هذه الساحة، يصنع انقساماً لشارع في مواجهة آخر، والإعلام المحلي يتمسك بتكريس هذه الظاهرة الخطيرة.
النهضة التي دعت إليها العرافة خلال حلقتها تبدأ من نهضة العقل والانصراف عن حفلة الجنون في الإعلام اللبناني الذي يضع المشاهد في خانة المتلقي البسيط، ويستبدل السياق المنضبط لربط الأحداث بأسبابها، وترتب النتائج على مقدماتها بتقديم معالجة خفيفة ومسابقة الغيب لمعاجلة اللبنانيين بفظاعة المستقبل.
ما تقول عنها المنجمة فترة صعبة وظروفاًَ قاهرة، لا تتطلب ضرباً في الغيب. لكن البحث يكمن عمن يستنبط هذه الاستنتاجات ويوعز لصاحبة العلاقات السياسية الواسعة في لبنان وخارجه بالحديث عنها ضمن قالب توصيفات وأرقام محددة تشكل رصداً لسياق سياسي ومالي بعينه. ويمكن مقاربة الطرح المأساوي الذي قدمته مع ما لم يتحقق سابقاً من توقعات لفهم المسار التحليلي أو الترتيبي الذي يُدرس، ثم يُكتب لها عما يُرجّح أو يُراد تحقيقه وإقناع المواطنين به سلفاً ثمّ يسقط بحكم المواجهات السياسية.
لقد شهدنا على التاريخ ولنا من نثق بوعودهم وخطاباتهم إذ طمأنونا ونحن معهم لا نميل مع الهوا. إننا نقاتل للنهوض، فلا تسمحوا بأن ننهزم، أمام ذواتنا قبل أي شيء، ولو في حلقة تلفزيونية. إننا نحارب لننجو من كل الذئاب ومن ليلى التي تخدعنا كلما حادثتنا سواء كانت صانعة للخوف أو مروجة للأمل.