«لا تذهبوا بعيداً...». لم تكمل بثينة عليق الجملة التي حفظناها. لم تقل: «لا تذهبوا بعيداً... ابقوا برفقة إذاعة النور».
كيف أكملت الجملة لتنتقل بنا إلى الفاصل؟
ليس سهلاً حفظ هذا التفصيل منذ المرة الأولى. لكنها كانت تجربة ممتعة أن تستمع إلى بثينة وتراها، عند التاسعة مساءً، عبر الشاشة الفضية فيما أنت معتاد على سماعها صباحاً في السيارة التي تقلّك إلى عملك، محاطة بعشرات السيارات العالقة في ازدحام السير. وكان الأمر مُربكاً أيضاً، أن تشاهد الإذاعة، تحتفي بنفسها، عبر التلفزيون في مقابلة خاصة أطلّ فيها الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله في مناسبة عيد المقاومة والتحرير، والعيد الثاني والثلاثين لـ«إذاعة النور».
أعادت بثينة عليق الاعتبار إلى المضمون قبل الشكل

منذ الإعلان عن المقابلة، وموعدها المسائي، كان السؤال الأول الذي تبادر إلى الذهن: كيف ستجري الإذاعة مقابلة على هذا القدر من الأهمية عند التاسعة مساءً؟ ذلك أنه من المتعارف عليه أن جمهور الإذاعة (الفئة الأولى) صباحي، فكيف ستنجح مقابلة إذاعية سياسية مسائية، حتى لو كان الضيف هو السيّد حسن نصرالله؟
بعد الاستفسار، تبيّن أن المقابلة ستكون متلفزة، تنقلها قناة «المنار»، ولاحقاً انضمّت إليها بقية القنوات. ازدادت الأسئلة: إذا كانت هذه المقابلة تحية من السيّد نصرالله إلى مؤسسة ناجحة من مؤسسات الحزب، فلماذا تتخلى الإذاعة عن خصوصيتها وتستسلم أمام التلفزيون، هي التي صمدت لعقود في وجهه، متحدّية بيانات نعيها مرات ومرات؟ لماذا لم تستغل «إذاعة النور» الفرصة، فتسجّل المقابلة، وتبثّها ضمن استديوهاتها الخاصة في الموعد المعتاد لبرنامجها السياسي الناجح، «السياسة اليوم»، ولتنقل عنها بقية وسائل الإعلام ما تشاء لاحقاً؟ أليس هذا ما كانت تفعله على الدوام؟
لا شكّ في أنها أسئلة طُرحت على المسؤولين عن قرار المقابلة، واختاروا ما ارتأوا أنه الأفضل. كأنهم قد يكونون اكتفوا بالحصول على المقابلة فلم يضعوا شروطاً، أو قرّروا الاستفادة من فرصة انتشار ستُتيح لها الظهور عبر الشاشة، عبر أكثر من قناة تلفزيونية، فيتصدّر لوغو الإذاعة المشهد.
هذا الخيار الذي اتخذته الإذاعة، أتاح لنا متابعة تجربة مختلفة من الحوار السياسي الذي واجه تحدّيات أربعة: التحدي الأول أن من يُجريه إذاعية ناجحة، تطلّ لأول مرة عبر التلفزيون من دون تدريب مسبق. التحدي الثاني، أنها ستحاور ضيفاً في مستوى السيّد نصرالله، أي أنها تحاور شخصاً يتمتّع بشعبية كبيرة وبموقع سياسي متميّز. التحدي الثالث، أنها تعمل في مؤسسة تابعة للحزب ما سيزيد من تعقيد الموقف لأنها ستطرح مجموعة من الأسئلة التي قد تبدو محرجة. وأخيراً، تحدي الجمهور، الذي لا يمكن التنبّؤ بردة فعله، لأنه سيلومها، إما لأنها طرحت أسئلة محددة، وإما لأنها لم تطرح أخرى، متسلّحاً بمواقع التواصل الاجتماعي.
استرسل السيّد ولم تقاطعه لكنها في المقابل طرحت أسئلة جريئة


صحيح أن الإذاعة باشرت، منذ عامين ، البثّ عبر الصوت والصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذا لا يعني كسر رهبة الكاميرا، ولا امتثال العاملين فيها لشروط العمل التلفزيوني القائمة بالدرجة الأولى على الاستعراض (show). وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن بوسع «إذاعة النور» اللجوء إلى خيار النقل المباشر عبر مواقع التواصل، بما أن فايسبوك يحظر ذكر اسم الأمين العام لحزب الله، كما يمنع نشر صورته على صفحاته.
عند التاسعة ودقائق قليلة، أطلّت بثينة بلا سمّاعات الإذاعة على أذنيها، لكن يبدو أن سمّاعة صغيرة كانت في أذنها جعلت السيّد يقول لها: «أقدّر ظرفك» عندما أخبرته بأن هناك من يطلب منها الاستعداد للفاصل الثاني. لا آثار لأيّ نوع من الماكياج ولو طفيف، تزيّنت بحجابها الأسود وارتدت «الشرعي الكلاسيكي»، حملت قلم «بيك أزرق» في يدها وباشرت الحوار.
مقدمة مختصرة، استعرضت فيها الواقع الحالي بصدق، ولم تخف فيها تقديرها للشخصية التي تحاورها. عبرت بثينة المحور الأول بسلام، جرت فيه استعادة حدث التحرير وتقديم قراءة له انطلاقاً من جديده المتمثّل في الرواية التي قدّمها ايهودا باراك. وجّه السيّد رسائله التي يتلقّفها عدّوه جيداً. بعدها دخلنا في المحور الثاني. بدأ التحدي مع السؤال الثاني عن الشعار الذي اختاره الحزب للمناسبة «عشرون عاماً من الكرامة»، والذي انطلقت منه بثينة لتسأل بصوت الناس المنهكين من الوضع الداخلي الذي يخدش بأزماته الصارخة فرحة التحرير: هل يمكن للكرامة أن تتجزّأ؟
اعترف السيّد أنه سؤال سمعه كثيراً في الفترة الأخيرة. أجاب مقدّماً وجهة نظر الحزب في الموضوع. استرسل السيّد ولم تقاطعه بثينة، وبدا أنه قرارها لأنها كانت تطرح السؤال التالي عندما ينتهي تماماً من الإجابة على سابقه، من دون أن تفوّت فرص التعقيب، ما خفّف من التفاعل بينهما. في المقابل، طرحت أسئلة جريئة، معقّبة عندما تساءل عن ضرورة مشاركة الناس في التغيير: «لقد نزلوا في 17 تشرين»، وسائلة إياه عن سبب عدم خوض معركة سياسية داخلية وتحمّل أثمانها، وعن الحلّ الوسط بين الحرب الأهلية وبين الفساد، وعن المراجعة النقدية الداخلية لأداء الحزب الاقتصادي، وعن الموقف من صندوق النقد. وهي أسئلة يمكن تصنيفها في خانة "أسئلة المحاسبة"، وهذا يعيد إلى الحوار السياسي التلفزيوني إحدى سماته الأساسية: «المحاسبة»، وذلك بعد أن تحوّلت الحوارات التلفزيونية إلى عدائية حيناً، وحلبة للملاكمة حيناً آخر، وتمسيح للجوخ في غالب الأحيان... خدمة للاستعراض والتسلية، وهما أمران يستهويان التلفزيون.
ربما لم تحمل المقابلة التي أجرتها بثينة عليق مع السيّد حسن نصرالله جديداً، وبقيت محكومة بسقف الحوار الذي فرضه الضيف، لكنها قدّمت نموذجاً لعمل إعلامي ناجح، معيدة الاعتبار إلى المضمون قبل الشكل. تعاملت بثينة مع التلفزيون، بالشخصية نفسها التي تتعامل فيها مع الإذاعة، ونجحت. فلنقل إنها «تجربة» لمستقبل الإذاعة، التي بدأت شيئاً فشيئاً تشارك التلفزيون في أن تكون مرئية، من دون أن تفقد خصوصيتها الإذاعية.