مع توالي عرض حلقات مسلسل «الاختيار» (كتابة باهر دويدار وإخراج بيتر ميمي وانتاج سينرجي – تامر مرسي)، الذي يجسّد من خلال شخصيَّة العقيد الشهيد أحمد المنسي (أمير كرارة) تضحيات الجيش المصري ومعاناته المستمرّة في حربه على الإرهابيين في شمال سيناء، مستنداً إلى أحداث حقيقية أُدخِلَت باحتراف بالغ ضمن نسيج حكائي متماسك، تتسابق المواقع المتخصّصة وصفحات السوشال ميديا في مصر إلى التعريف بالشخصيَّة الحقيقيَّة التي تتناولها كلّ حلقة ساعيةً لتقديم كلّ المعلومات المتوافرة حول الشخصيَّة التي تعود غالباً لأحد الضبّاط الشهداء في سيناء، مع تفاصيل أكبر عن ظروف الاستشهاد لم تستطع الكاميرا أن تنقلها كلها، وبعض الصور الحقيقيَّة. ويرى الإعلاميّون والناشطون في ذلك تجييراً للتعاطف الشعبي الكبير الذي يحصده النجم الذي جسّد شخصيّة الشهيد إلى من يستحقه أكثر وهو الشهيد نفسه، خصوصاً أن صنّاع العمل اهتموا بهذا الجانب، فاختاروا بعض نجوم الصفوف الاولى لتقديم هذه الشخصيات التي تظهر في حلقة واحدة غالباً، ليكون هؤلاء ضيوف شرف استثنائيين في عمل استثنائي ومنهم: محمد عادل إمام، وآسر محمود ياسين، وكريم محمود عبد العزيز، وأحمد صلاح حسني وعمرو سعد.
إلا أنَّ الشخصيَّة التي استحضرها المصريّون مع عرض الحلقات الأخيرة من المسلسل لم تكن لضابطٍ شهيدٍ في سيناء بل للمفكر الراحل فرج فودة (1945 – 1992). فما علاقة الأخير بـ «الاختيار»؟
القصَّة بدأت مع ظهور الممثل أحمد الرافعي للمرَّة الأولى في الحلقة الخامسة عشر بدور الشيخ عمر رفاعي سرور، المفتي الشرعي للجماعة التي انضمَّ إليها الإرهابي والضابط المفصول من الجيش هشام عشماوي (أحمد العوضي). في المشهد، يقنع الرجل قيادة الجماعة بضرورة سرقة السيارات ومحلات الذهب المملوكة للمسيحيين أوَّلاً للحصول على التمويل اللازم في ظل الأزمة التي يعانون منها بفعل تضييق السلطات على حركتهم، ثمَّ الانتقال ـــ في حال تعذّر ذلك ـــ إلى سرقة المسلمين غير الملتزمين، ثمَّ سرقة المسلمين الملتزمين أنفسهم في المرحلة الأخيرة، فمَن كان من أهل التقوى والصلاح وسقط عنه التكليف بالجهاد بالنفس لسبب ما، لن يسقط عنه تكليف الجهاد بالمال!
أثناء الحوار، يبدو الرافعي متمكناً جداً من الدور الذي يؤديه بهدوء، مع ابتسامة واثقة غير مطمئِنة لا تفارق محيّاه، يستخدمها في السيطرة على محدثه والإيقاع به، ووجه أبيض ممتلئ بلحية مشذبة وعباءة فضفاضة تضفي على حضوره المزيد من الهيبة. حتى إنَّ الكثير من المتابعين أشادوا بالتمكن والعبقريّة وفهم الدور عند «الشيخ عمر» من دون أن يعرفوا شيئاً عن اسم الممثل الذي جسَّد الدور أو عن أدواره السَّابقة، معتبرين أنَّ الرجل «لا يمثل» بل يكاد يكون «تكفيريّاً حقيقيّاً»!
الاهتمام الطارئ بالرفاعي دفع بعضهم إلى النبش في حسابه الشخصي على فايسبوك، ليخرجوا بمواقف متطرفة حوّلت المبالغة الساخرة أعلاه إلى حقيقة، ومنها منشور له عام 2019 يتحدث فيه عن «نفوق» فرج فودة، المفكر المصريّ الذي اغتيل بالرصاص في 8 حزيران (يونيو) 1992 بعد تحريض جبهة علماء الأزهر عليه واتهامه بالردّة، معتبراً أنَّها المرَّة الأولى التي يفرح فيها المصريّون لموت انسان.
ابنة المفكر الراحل سمر فودة شنت هجوماً على الرافعي، واصفة إياه بـ«الممثل المتطرف» الذي لم يقابل الرأي بالرأي أو الفكر بالفكر بل لجأ إلى السبّ والقذف، مخاطبةً إيّاه: «أعلنت سعادتك وفرحتك بانتصار شيوخك المتطرفين وجماعة الإخوان الإرهابيّة بقتل رجل أمام أعين أبنائه الصغار بدم بارد.. وكان كلّ سلاحه الكلمة فقط».
وردَّ الرافعي من خلال مكالمة هاتفية مع برنامج «بالورقة والقلم» الذي يقدّمه نشأت الديهي، رأى فيها أن فودة «وجّه قلمه نحو عقول المصريين»، معتبراً أنّه لا يختلف كثيراً عن المتطرّفين الذين يهاجمون الجيش المصري ويوجّهون رصاصاتهم نحو صدور عناصره، رافضاً توصيف أفراد الجماعات المتطرفة بـ«التكفيريّة» كونه يتبع نهج جامع الأزهر الذي لا يكفرهم، ولافتاً إلى أنَّ فودة لم يقدّم للشعب المصري أيّ إضافة ولم يترك أثراً! قبل أن يعود الرافعي ليلفت في منشور على صفحته – زاد من حجم الالتباس بدلاً من إزالته - أنَّه مسلمٌ تعلم في مدارس الرهبان ونشأ على حبّ كلّ ما هو مصري، نافياً انتماءه لأيّ من التيّارات أو الجماعات المتطرّفة يميناً كالخوارج التكفيريين والإخوان و«المتمسلفة» أو يساراً كالحداثيين وأشباههم، وأنَّ مرجعيّته الوحيدة هي الأزهر الشريف وإمامه ومشائخه والجيش الوطني الذي يتشرّف بالمشاركة في عمل يخلد ذكرة أسطورته أحمد المنسي.
وقد انقسمت الآراء حول مواقف الرافعي، فاعتبر بعضهم أنَّ من يطالب بحريّة الرأي والتعبير عليه أن يتقبّلها بكلّ إفرازاتها، مقابل من اعتبر أنَّ استخدام كلمة «نفوق» في وصف رحيل مفكر كبير أمرٌ لا علاقة له بحريّة الرأي.
الزميل مدحت صفوت كان من أبرز أصحاب الرأي الثاني. اعتبر في منشور له أنَّ الرافعي حاول في التبرير الذي ساقه اللعب بانتهازيّة على وترَين مختلفين: الأوَّل هو رفع الصوت ضدّ الحداثيين كفنان أزهريّ ملتزم يتعرّض لحملة من العلمانيين، في محاولة لكسب تأييد المتدينين، والثاني هو دغدغة عواطف أنصار النظام عبر الحديث بإيجابيّة عن الجيش وبطولاته ورموزه وفي طليعتها الشهيد أحمد المنسي، معتبراً الخلطة التي يقدّمها الرافعي من «تصوّف» و«سلفيّة» و«جيش» و«أزهر» و«تطرّف» ظاهرةً جديرةً بالدراسة. ويختم صفوت بالقول إنّ «ضابط الجيش الشهيد على راسنا، أمّا المفكر التنويري فهو يساوي كتيبة كاملة».
ويبقى التكهن صعباً بموقف صنّاع العمل من «شطحات» أحد أبطاله، فهذه الجلبة ستسلط حتماً المزيد من الأضواء على العمل الناجح جماهيرياً، ولكنها في المقابل ستطرح الأسئلة حول قدرة المادّة الموجّهة التي يقدّمها على التأثير في المتلقي إن كانت قد فشلت في اختراق وعي بعض المشاركين في صناعتها.