موسكو | «حرية الكلمة والتعبير»، مطلب شعبي كان سارياً أيام الاتحاد السوفيتي، إلى أن تحوّل إلى شعار رفعته أطراف المعارضة الروسية في احتجاجاتها التي عاشت عاماً واحداً قبل أن تخمد في رماد الكرملين. لكن الكرملين لا ينسى خيراً ولا شرّاً بحقه. ومن الأمثلة الجميلة على ذاكرة الكرملين القوية، كان الرد المتأخر عندما وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار تصفية وكالة «نوفوستي» الروسية وإذاعة «صوت روسيا» ودمجهما في وحدة إعلامية أطلق عليها اسم «روسيا سيغودنيا» («روسيا اليوم»).
أهم ما سيميّز الوحدة الإعلامية الجديدة هو «الولاء للوطن» وتمجيده، وهو ما يبرّر تعيين ديمتري كيسليوف، الإعلامي المُمجّد والمخلّد للسطة الحالية. «نوفوستي» التي عُرفت مصدراً محايداً ومعاصراً للخبر، ترتدي اليوم، وفي آخر أيّامها، حلّة جديدة خاطها الكرملين بكل عناية وثقة. أيّام معدودة وستحمل هذه الوكالة التي يفوق عمرها السبعين عاماً، اسماً وطاقم عمل جديدَين.
ليست الوكالة «الوطنية» هي الهدف الوحيد لهذه التغييرات. آخر تطورات الحشد لحرب إعلامية كان أوّل من أمس عندما حذّرت «وكالة الرقابة الوطنية» موقع «لينتا» الإلكتروني من الاستمرار في العمل بالنفس عينه. تحذير تجسّد بتغيير رئيسة تحرير الموقع، غالينا تيمتشينكو، وتعيين آخر أكثر ولاء للخط الإعلامي الجديد يدعى أليكسي غوريسلافسكي.
في تقرير الوكالة تلميح إلى أنّ «لينتا» خالف القوانين الروسية بنشره مقابلة مع أحد أعضاء «جبهة اليمين» الأوكرانية المتطرّفة. إلا أنّ مناصري الصحافة المستقلة يرون في القرار «مراسم لدفن الصحافة» الروسية.
من جهته، أعرب رئيس موقع «نوفوستي» الإلكتروني، إيليا بولافينوف، عبر فايسبوك عن عدم استغرابه لما حصل، مضيفاً «كل ما يمكنني قوله: شكراً غالينا تيمتشينكو».
على صعيد آخر، غرّد أحد العاملين في «لينتا» قائلاً: «لم ولن أعمل ولو يوماً واحداً بقيادة رئيس التحرير الجديد».
أما رئيس تحرير إذاعة «صدى موسكو» المعارضة، أليكسي بينيديكتوف، فرأى أنّ هذه التغييرات مبنية على «دوافع سياسية».
وفي ظل هذه التحوّلات الجذرية المستمدة من الساحة الحمراء، برزت حرية التعبير الشهر الماضي إلى الواجهة من باب شاشة «دوجد» الرقمية المعارضة، وتحديداً يوم طرحت في أحد برامجها سؤالاً أثار سخط السلطات الروسية.
في الذكرى السبعين لرفع حصار لينينغراد، أجرت القناة استفتاءً على الشكل الآتي: «هل كان الأفضل تسليم مدينة لينينغراد إلى النازيين لحماية مئات آلاف الأرواح التي قضت بسبب الجوع إثر الحصار؟». لكن سرعان ما اعتذرت القناة من المشاهدين على هذا «الخطأ الفني»، قبل أن تزيل السؤال عن موقعها. وبعد أيام، توجهت مجموعات في سان بطرسبورغ إلى النيابة العامة، مطالبة بمعاقبة القناة، ووصل الأمر بالبعض إلى حد طلب إغلاقها، وهي تواجه اليوم 20 دعوى مدنية، علماً بأنّ حصار لينينغراد يعتبر حدثاً أليماً بالنسبة للروس، إذ دام أكثر من عامين، صمدت خلالهما المدينة السوفياتية أمام النازيين من دون طلب المعونة، لتصبح رمزاً للمواطنية، على الرغم من أنّ الثمن كان ملايين الأرواح.
المفارقة كانت أنّه أثناء تقديم الشكاوى ضدها، ألغت شركات إنترنت عدة عرض «دوجد» لزبائنها، ما أدى إلى اختفائها قبل صدور أي حكم في حقّها، الأمر الذي اعتبره ناشطون في مجال حقوق الإنسان «استهتاراً بحرية الرأي».
تقف روسيا اليوم على عتبة حرب محتملة، وهي في أشد الحاجة إلى حشد جيشها الإعلامي وتطهير إعلامها من أي «ثُغَر» محتملة. لكن، ألا يخاطر الكرملين بوضع المؤسسات الصحافية الليبرالية والديموقراطية كلها على خط واحد قد يكون سيفاً حاداً على رقبته؟