«علقتُ خبر موتي على الحائط، كلّ صباح ومساء كنتُ ألقي نظرة عليه، لأطمئن أن ورقة الجورنال التي كتبت فيها الخبر بخط كبير وصفحة أولى بعيداً عن الوفيات ما زالت سليمة، وتستطيع أن تقاوم معي الأيام القادمة». بهذه الكلمات التي اقتطعها من قصَّته «وحي مقبرة» ونشرها على صفحته في موقع فايسبوك مساء الأربعاء 22 كانون الثاني (يناير) الحالي، اختار القاصّ المصري الشاب محمد حسن خليفة (23 عاماً) دعوة أصدقائه إلى توقيع مجموعته القصصيَّة الأولى «إعلان عن قلب وحيد» في «معرض القاهرة الدولي للكتاب» بعد أيام قليلة.صباح اليوم التالي، يتوجّه محمد إلى المعرض لملاقاة أصدقائه من الكتّاب الشباب الذين يعتبرهم بحكم تواضعه وحداثة تجربته أساتذة له، ولشراء كتب لن يقرأها أبداً لأنَّ مشواره هذا سيكون الأخير في رحلة حياة قصيرة.
بعيداً عن التفاصيل التي تعني أهل الكاتب الراحل ورفاقه في مصر أكثر من غيرهم، عن السبب المعلن للوفاة (ارتخاء في أحد شرايين القلب)، وعن حقيقة وجود تقصير في العناية الطبيَّة وتأخر في نقله إلى المستشفى من عدمه، فإنَّ خبر الوفاة كان مؤلماً حتى لمن لم يعرف محمد مسبقاً ولم تجمعه به صداقة من أيّ نوع، فليس عاديَّاً أن يسقط كاتب شاب في معرض للكتاب، ثم تواكب عبر صفحات الأصدقاء الافتراضية عملية نقله إلى المستشفى ليأتيك في الختام خبر وفاته. ولعل ما رواه عارفوه عن أصالة موهبته وحلاوة روحه ومحبَّته للجميع وتواضعه وحماسته الشديدة للحظة فارقة في حياته تتمثل في صدور كتابه الأوَّل الذي سيكرسه كاتباً، أمور تضاعف من وقع الخبر.
تفكر في كتابة مقالة أو منشور فايسبوكي عن محمد وموته الفريد من منشوره الوداعي إلى سقوطه في مكان هو الأحبّ حتماً إلى قلبه، لكنك تخشى أن يبدو الأمر استغلالاً لحادثة مؤلمة لم تكن قد سمعت باسم صاحبها قبل وفاته، فتكتفي بمواساة الأصدقاء المشتركين بينكما، والدعاء له بالرحمة، والتصميم على حيازة كتابه وقراءته في أسرع وقت ممكن.
غير أن قرارك يتبدل لحظة قراءتك مقالة صفاء النجار في صحيفة «الدستور» المصرية يوم الجمعة في 24 كانون الثاني (يناير) بعنوان «لحظة في حضن الحياة.. إلى محمد حسن خليفة». لا يمكنك سوى الاعتراف للروائيَّة والقاصَّة المصريَّة المسؤولة عن صفحة «مرايا الإبداع» في الصحيفة بابتداع مدرسة جديدة في الرثاء.
اختارت صفاء أن تؤبّن محمد بنشر المراسلات التي جرت بينهما حرفاً بحرف، بكلّ ما تحمله للقارئ من دماثته ومن استعلائها. تقرأ المقالة، فتخرج أكثر اقتناعاً بأن ما قاله أصدقاؤه عن لطفه وتهذيبه لم يأتِ من باب «اذكروا محاسن موتاكم» الذي يتحول أحياناً إلى «اختلقوا محاسن لموتاكم»، بل هو صفة أصيلة فيه لا يمكن لأحد ممن عايشه إنكارها. بهذا التهذيب، وبإلحاح كاتب شاب ينتظر فرصته، يلاحق محمد منذ عام 2018 قصَّة أرسلها للنشر في «مرايا الإبداع» ليعرف مصيرها. القصَّة اسمها «لحظة في حضن الحياة». لكن صفاء لا تردّ إلا بعد رسائل كثيرة متباعدة. وحين تقرأ القصة أخيراً وتجدها صالحة للنشر، تطلب صورة شخصيَّة فيرسلها، فلا تجد فيها إلا مادَّة للتهكم: «بذمتك دي صورة شخصيَّة؟» يعتذر ويرسل أخرى قديمة: «كده الصفحة هتبقى مرايا الأطفال» تجيبه. يعتذر مجدّداً ويصحّح خطأه. بعد شهر، يسأل مجدداً عن وجود مشكلة في نشر قصته: «نعم هناك مشكلة.. هناك مشكلة اسمها قائمة الانتظار». يشكرها فتطلب منه إرسالها إلى صفحة أخرى إن كان مستعجلاً، فينفي رغبته بذلك ويعلمها أنَّ القصَّة باقية لديها إلى أن تقرّر نشرها. بعد شهر، يسألها إن كان العائق هو الصورة وقد أرسل إليها واحدة مناسبة لا علاقة لها بتوم وجيري وبلا رتوش، وانتهى الأمر، فتجيبه «هو حضرتك متصوّر ان المطبعة واقفة مستنية صورة حضرتك تتفضل وترسلها لي؟... كان المفروض حضرتك تهتم وترسل صورة رسمية لكاتب (تقصد من البداية) وليس صور مراجيح مولد النبي أو القناطر الخيرية». في رسالة قصيرة من كلمات معدودة، يشكر محمد ويأسف ويعتذر ويسلم.
وفي الختام، لا تنسى الكاتبة أن تتحفنا بـ«العبرة من الحكاية» (هكذا أسمتها صراحةً): «أنا لست لطيفة دائماً كما يتوهّم البعض، لا ترسل عملاً أدبياً للنشر من دون إرسال صورة شخصية رسمية»، حقاً؟! «بدمتك يا صفاء»، هل هذا هو التوقيت المناسب والأسلوب المناسب، ومحمد المتوفي قبل يوم واحد هو الشخص المناسب لاتّخاذه أمثولة في هذا الدرس العظيم؟
عند متابعتك القراءة، ستتوقف سريعاً عن المزايدة على صفاء التي لم تكتفِ بالسخرية والتهكم على كاتب شاب وهو حيّ، بل أصرت على انتهاك خصوصيَّته وحرمة موته، فهي ستخبرك بحزنها لتأخرها في النشر ونيّتها التعويض على محمد بنشر قصَّة من كتابه الجديد، كما أنها ستفرد السطر الأخير من مقالتها لامتداح عينيه اللتين تتسعان للحياة والتذكير بأن الموت يختار الملائكة. وماذا عن الشياطين يا صفاء؟
الحكاية مصرية قياساً إلى جنسية طرفيها، والحديث فيها بالنسبة إلى البعض هو تكريس لمبدأ انتهاك الخصوصية وحرمة الموت، لكن محمد قد يكون من أيّ جنسية عربية أخرى، وكذلك صفاء، والمراسلات قد خرجت فعلاً إلى العلن لسبب لن يفهمه سوى صفاء وبعض من اكتشف في مقالتها رسالة نبيلة خفية! والغضب هنا حق وواجب، وهو انتصار لإنسانيتنا ومهنيتنا، لا لمحمد..