إنتاج ضخم بميزانية إماراتية وصلت، كما يقال، إلى 40 مليون دولار أميركي، ومخرج إنكليزي معروف هو بيتر ويبر، من أعماله في السينما «صعود هانيبال» (2007) و«الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» (2003)، وفي التلفزيون مسلسل «للرجال فقط» (2001) و«توت عنخ أمون» (4 حلقات ــ 2016)، إلى جانب فريق عمل من مختلف البلاد العربية، التقوا في تونس ليصنعوا مسلسل «ممالك النار» الذي يُعرض حالياً على قنوات mbc محققاً نسبة مشاهدة عالية جداً ومُحدثاً جدلاً عابراً للحدود.المسلسل الذي تقع أحداثه في 14 حلقة فقط، انطلق عرضه في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، ويتناول فترة عصيبة من تاريخ الأمّة العربية، من العجيب أنّها لم تقدّم من قبل سينمائياً أو تلفزيونياً أو حتى روائياً. وهي الفترة التي سبقت، وشهدت، الغزو التركي العثماني للأراضي العربية حتى وصل إلى مصر المماليك واحتلها عام 1517 في معركة الريدانية، وصولاً إلى شنق السلطان الأشرف طومان باي على باب زويلة في القاهرة، ليبدأ عهد من الظلام والرعب يخيّم على الأمة العربية لأكثر من أربعة قرون.
العمل الدرامي الذي كتبه المصري محمد سليمان عبد الملك، يروي هذه المرحلة التاريخية من خلال تتبع حياة أهم اسمين صنعا الأحداث، وهما: السلطان العثماني سليم الأوّل (يؤدّيها السوري محمود نصر) والسلطان المملوكي طومان باي (يؤدّيها المصري خالد النبوي)، وذلك منذ طفولتهما المبكرة، حتى نضوجهما، وتحوّل الأوّل إلى سفاح بلا قلب يقتل إخوته من أجل الانفراد بالسلطة، وتحوّل الثاني إلى زعيم شعبي محبوب عادل وطيب القلب وبطل مغوار في الحروب.
بغضّ النظر عن الحقائق التاريخية، وأي تاريخ هو محلّ معلومات ونظريات ووجهات نظر متباينة ومتعارضة، وبغض النظر عن الجدل المثار بين خصوم وأنصار «السلطان» التركي الحالي، من دول وجماعات مصالح، يبدو «ممالك النار» وكأنّه ردّ مباشر على تلك المسلسلات التركية التاريخية التي تدور حول مشاهير سلاطين الإمبراطورية والخلافة العثمانية. وهذا الردّ له شقان؛ الأوّل يتعلّق بمضمون العمل، والثاني بالمستوى الفني والحرفي.
المضمون يُترَك للمؤرّخين الذين يتصارعون حالياً حول مدى وحشية واستبداد العثمانيين، وإذا ما دمّروا العالم العربي أم أنهم، كما يرى حلفاؤهم، «أنقذوه» من الاحتلال الأوروبي؟! وهل كانوا حقاً جزءاً من العالم الإسلامي، أم أنّهم استغلوا الدين ليحكِموا سيطرتهم على البلاد، وكانوا أسوأ خصم لإسلام الحضارة والعقل والاعتدال؟ وهل هم حقاً حلفاء للعالم العربي الحالي أم لا يزالون يستغلون رابطة الدين والجغرافيا لتحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية؟
أسئلة كثيرة أثارها، وسيواصل إثارتها «ممالك النار»، من شأنها تحريك العقول للبحث والتقييم.
أما في ما يتعلق بالفن والحرفة، فلا شك أنّ المسلسل يتّسم بحرفية عالية للغاية من ناحية خلق البيئة التاريخية بتفاصيلها، وتصميم وتصوير المعارك وأداء الممثلين. وهو يمثّل نقلة نوعية في الدراما العربية الحربية والتاريخية.
الإشكالية التي يمكن أن نختلف عليها تكمن في السيناريو الذي يختزل التاريخ وكأنّه مجرّد صراع طباع بين شخصَين، أحدهما رمز للطيبة والنبل بينما الثاني رمز للشر المطلق منذ أن كان طفلاً صغيراً. ويتجلّى ذلك في الحلقة الثانية من المسلسل التي يقوم فيها سليم الأوّل بقتل حارس وطفل آخر بمنتهى التلذذ والاستمتاع، ثم يتوعد أحد إخوته بالقتل، وهو الوعد الذي سيحققه كبيراً بالتخلّص من كلّ إخوته. على الضفة الأخرى، يظهر طومان باي كطفل بريء، مثالي السلوك والأخلاق، وكذلك شخصية عمه الحاكم قنصوة الغوري التي يؤدّيها السوري رشيد عساف.
بغض النظر أيضاً عن مدى تطابق هذه الرؤية مع الحقائق التاريخية، إلا أنّ المؤكد أنّ المماليك لم يكونوا ملائكة، وإنّما طفيليات فاسدة النشأة والتكوين تمتصّ دماء الشعوب العربية وتتصارع في ما بينها، لدرجة أنّ قليلين جداً منهم مَنْ ماتوا بشكل طبيعي قبل أن يغتالهم أحد زملائهم من المماليك.
بعيداً من التاريخ، فإنّ الرؤية التي يطرحها «ممالك النار» هي درامية مبسطة وسطحية، ربّما لتتوافق مع أهداف المموّلين السياسية من صنع العمل، في إطار الصراعات الدائرة في المنطقة حالياً.
هذا التبسيط «الميلودرامي»، على طريقة الأعمال التاريخية والحربية الهوليوودية الرخيصة، ربما يساهم في إثارة حشد «شعبوي» مضاد للنسخة التركية المنقحة والمجمّلة لتاريخ الخلافة العثمانية. لكن صياغة الصراع على طريقة الأبيض والأسود، لا تخدم التاريخ ولا الرؤية الموضوعية له. ربّما تزيد الغضب من الأتراك، وربما تنتج، كما يتوقّع، فيضاناً من الدموع وعواطف الشفقة على مصير السلطان الشهيد طومان باي، وهي مشاعر ظلّ المصريون يحتفظون بها على مدار قرنين بعد وفاته، وفقاً لما حفظته لنا كتب المؤرّخين العرب والأوروبيين عن تلك الفترة.
غير أنّ هذا الغضب، وهذه الدموع والمشاعر، لن تساهم في زيادة فهمنا للعالم ولدموية التاريخ البشري عموماً، ولصراع «ممالك النار» الذي لم ولن ينقطع على الثروة والسلطة.

* من الأحد إلى الأربعاء ــ الساعة الواحدة بعد منتصف الليل على «mbc مصر»، والعاشرة مساءً على mbc