ثمّة فكرة عبقريّة تحكم سرديّة الأعمال السينمائيّة والتلفزيونيّة التي قُدمت تحت عنوان «التطهير» أو The Purge لتحكي قصّة الخراب الأيديولوجي الذي يعيشه المجتمع الأميركي المعاصر من خلال أحداث متخيّلة عن عيد سنوي للعنف يسمح أثناءه للمواطنين بالتطهر من خلال ارتكاب ما يحلو لهم من جرائم وسرقات واغتصاب. لكن مجموع ما قُدّم حتى الآن (أربعة أفلام ومسلسلان) يعاني من ضعف بنيوي على مستوى الميلودراما، مع عبث مسطح بالأفكار الكبرى عن العنصريّة والطبقيّة والخواء الروحيّ وهيمنة النخبة المنحرفة وهراء أسس المشروع القومي، من دون التمكّن من تقديم صورة سويّة للذات الأميركيّة أو الإتيان بنقد عميق لمثالبها الكثيرة. The Purge بمثابة وعد لم يتحقق بعد.قليلة هي أفلام الرعب الأميركيّة التي حققت أرباحاً طائلة منذ بداية القرن الحالي. لكن رباعيّة The Purge التي قدّمت حتى الآن (بداية من عام 2013) - وكذلك المسلسل الذي شرعت خدمة «أمازون فيديو» أخيراً بعرض حلقات أسبوعيّة من موسمه الثاني تحت العنوان نفسه ـــ كأنها منجم ذهب حقيقي، إذ جمعت حتى الآن ما يقارب الـ 500 مليون دولار من العوائد مقابل ميزانيّة لم تزد عن ثلاثة ملايين دولار استثمرت في تقديم الجزء الأوّل، بينما لم تتجاوز كلفة إنتاج أي من الأجزاء الأخرى حاجز 10 ملايين دولار لكل منها.
وقد كسرت الرباعيّة أيضاً غلبة ظاهرة تمكّنت من إنتاجات الرعب الأميركيّة الأخيرة من حيث تمحورها حول ثيمات الخوارق والغرائبيّات واللامألوف، لتقدّم رعباً من خلال ديستوبيا عن أميركا في مستقبل قريب يبدو شديدة الواقعيّة، وليس فيها ما يخرج عن قدرة البشر على إيذاء بعضهم، بل ربما تقصر أحياناً عن وصف مدى التشوّه الأيديولوجي والسايكولوجي الذي تتسبب به النخبة الأميركيّة الحاكمة لشعبها قبل النظر في ما تذيقه من عذابات للشعوب الأخرى.
هذا النّجاح التّجاري الاستثنائي استند إلى فكرة عبقريّة لميثولوجيا التطهير التي توظفها النخبة الحاكمة للتخلّص من الفئات غير المنتجة في المجتمع مع تعليبها دائماً بوصفها خلاصاً روحيّاً من نوازع العنف والقهر المتراكم في نفوس المواطنين. خلاصة الفكرة أن مجموعة آباء مؤسسين جديدة ممسكةٌ بخناق الدولة الأميركيّة شرّعت عيداً سنوياً (ليلة 21 مارس) للتطهير The Purge يُسمح فيه للمواطنين طوال 12 ساعة متواصلة بتنفيذ كافة أشكال القتل والعنف والجرائم من دون مواجهة أيّ عواقب قانونيّة، متذرّعة بأن نسب الجرائم والبطالة وتدنّي الإنتاجيّة تتراجع بشكل ملحوظ منذ إقرار ذاك العيد. وقد منحت هذه المنصّة لجيمس دي موناكو ــــ صانع السلسلة بالتعاون مع «يونيفرسال» و«بلمهاوس» ــــ مساحة هائلة لتناول الأوجاع العميقة للمجتمع الأميركي المعاصر من العنصرية والطبقية وهيمنة النخبة المنحرفة وهراء أسس المشروع القومي إلى الخواء الروحي والانحرافات السلوكيّة التي تتسبب بها الرأسماليّة المتأخرة للأفراد المنعزلين ونوازع التوحّش الكامنة في النّفس البشريّة.
دي موناكو قدّم رؤيته حول تلك الأوجاع من خلال قصص منفصلة في كل جزء، عابراً الانقسامات الإثنية والطبقيّة والسياسيّة من أعلى مستويات النخبة نزولاً إلى قاع الشارع، ومن وجهات نظر متفاوتة لأنصار ميثولوجيا التّطهير ومناهضيها. ولا شكّ في أن هذا الطرح لقي هوى في قلوب المشاهدين الأميركيين، لا سيّما أنّ أوقات طرح الأجزاء المختلفة كما موضوعاتها («التطهير» 2013 متوافر على «أمازون»، «الفوضى» 2014 متوافر على نتفليكس، «سنة الانتخابات» 2016، «التطهير الأول» 2018) رافقت التحولات المفصليّة والاستقطابات الحادّة في المجتمع الأميركي التي نتجت عن الارتدادات الزّلزاليّة للأزمة الماليّة العالميّة 2008، وما تبعها من تسونامي صعود اليمين، وانتهاء إلى مرحلة انتخاب دونالد ترامب رئيساً، مروراً بالعنف المتزايد للشرطة ضد أقليّة الأفروأميركيين.
لكّن هذا الهوى الذي ترجم أكواماً من الدولارات لا ينبغي له أن يخفي حقيقة الضعف البنيوي الحاد في بنية الميلودراما، والسّذاجة في بناء أغلب الشخصيّات، ناهيك بالطرح المبستر للقضايا الأساسيّة للمجتمع الأميركي أو أعماق السايكولوجيا البشريّة التي يحملها وعدّ أعمال تنتظم تحت يافطة ميثولوجيا التطهير الساحرة والغامضة والمثيرة، كما فقدان مستغرب لقوّة كامنة لبعض الزوايا التي قدّمها دي موناكو من دون أن ينجح في البناء عليها، لا سيّما فكرة المقاومة والثورة.
وعندما أعلنت أمازون في نيسان (أبريل) 2017 توقيعها عقداً مع دي موناكو لتقديم ثيمة The Purge على شكل موسم أوّل لمسلسل من عشر حلقات (2018) تفاءل النقاد والجمهور بالفرصة أمام دي موناكو ورفيقه مصمم السلسلة توماس كيلي للتخلّص من ضغط الوقت السينمائي القصير الطابع، والعمل بتروٍّ على بناء شخصيّات أكثر عمقاً، ونسج معالجات أكثر نضجاً للمسائل التي اكتفت رباعيّة الأفلام بالعبث معها من دون الخوض في غمارها أو استكشاف أبعادها.
فشلت الحلقات الأربع المعروضة في الوصول حتى إلى أرقام حلقات الموسم الأول

لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال، رغم أن أمازون سارعت إلى التوقيع لإطلاق موسم ثانٍ (2019، عرضت منه خارج السوق الأميركيّة أربع حلقات أسبوعيّة إلى الآن). إذ بدا ذلك الموسم أشبه بمحاولة مسلوقة متعجلة لجني الأرباح من جمهور الأفلام ذاته من دون تقديم أيّ خطوط سرد مقنعة أو شخصيات ملونة ثلاثيّة الأبعاد، مع تخفيف مخلّ بشكل العنف المقدم ربما لإبقاء العمل مفتوحاً لمختلف الأعمار من دون قصره على فئة الـ 18+ واستبعاد المشاهد الجنسيّة بشكل كليّ، وتسرب لمعات عن معالجات ممكنة عن الدين، والثّورة وغيرها من دون فائدة تذكر. الخاسر الأكبر من هذه المراهنة المتعجلة كان دون شك القضايا السياسيّة والمضامين الطبقيّة والسوسيولوجيّة والسايكولوجيّة التي توحي بها فكرة ميثولوجيا التطهير، فقد جعل منها طاقم العمل مجرّد خلفيّة باهتة لمصلحة عناصر الحركة وسباق السّيارات والكليشيهات الأقرب إلى ألعاب الفيديو منها إلى التلفزيون.
في ظلّ ذلك الفشل (النسبيّ)، فإن الموسم الثاني سيكون حاسماً أمام دي موناكو وفريق العمل لاستعادة ثقة الجمهور قبل أن ينصرف عنه المشاهدون نهائياً ويتحول The Purge إلى منتج موجّه نحو شريحة ضيقة من «الفانز الموالين» هذا إن بقي على قيد الحياة وفق حسابات أمازون التجاريّة. إلا أن الحلقات الأولى من الموسم الجديد (بطولة ماكس مارتيني ديريك لوك، والمكسيكيّة الحسناء باولا ريفاز) لا تشير أقلّه لغاية الآن إلى قفزات نوعيّة في صياغة العمل، لا سرداً ولا شخصيّات ولا نقداً اجتماعياً أو سياسياً، مع كثافة مستحدثة في توظيف زاوية دولة الكاميرات والرّقابة التامة على تحركات واتصالات الأميركيين من دون هدف واضح. وقد فشلت الحلقات الأربع المعروضة في الوصول حتى إلى أرقام حلقات الموسم الأول، سواء لناحية عدد المشاهدين أو لتقييمهم لها، وهو ما يشير إلى نهاية قريبة غير سعيدة للجميع منتجين وجمهوراً، على رأسهم دي موناكو شخصياً.
ربما أفضل ما يمكن أن يفعله دي موناكو لـ The Purge مع نهاية هذا الموسم هو الانسحاب التام من الانخراط الفني في أيّ محاولات قادمة لتوظيف فكرة التطهير هذه في السينما والتلفزيون، وربما تركها لمخرجين وكتبة سيناريو آخرين أخصب خيالاً وأكثر ثقافة لتقديم قراءات مغايرة للواقع الأميركي المثقل بقضايا كثيرة تحتمل معالجات أعمق درامياً وأصدق سياسياً وأمتع إنسانياً. لقد كلّفت الأمة الأميركيّة دي موناكو برفع مرآة كبرى كي ترى فيها ذاتها على حقيقتها بكل نقائصها والعيوب، لكنه كفقير شره، اكتفى من الغنيمة بالملايين المتراكمة، وما قدّم لبلاده سوى صورة مشوهة في مرآة مقعّرة، ستسقط حتماً من تاريخ السينما والتلفزيون غير مأسوف عليها.