في ليلة من ليالي شباط (فبراير) الباردة من عام 2014، أي قبل خمس سنوات، سقطت منال عاصي، مضرجة بدمائها، بعدما أقدم زوجها الجاني محمد النحيلي على ضربها بشكل مبرّح، وجلب طنجرة الضغط الساخنة التي تحوي الفاصوليا وسكبها على جسدها، ليعود ويتصل بعائلتها، قبل لفظ أنفاسها الأخيرة. طلبت منال وقتها من شقيقتها وهي ترتجف: «دخيلك يا اختي بردانة غطيني». كلام نقلته وقتها صحيفة «السفير» على لسان شقيقتها غنوى عاصي، بعد مماطلة الجاني في إسعافها. حادثة من أشهر الجرائم الأسرية التي وقعت في لبنان. يتذكر كثيرون اسم منال عاصي، وكيفية وقوع الجريمة النكراء، رغم العديد من الجرائم المماثلة قبلها وبعدها. لكن يبدو أن هذه الحادثة التي ظلّت حديث الإعلام لفترات طوال، وأمعن في معالجتها بشكل سلبي، ألهمت البرامج التلفزيونية واليوم الدراما اللبنانية.
كارين رزق الله في المسلسل

«بردانة أنا» (كتابة كلوديا مرشليان ــــ إخراج نديم مهنا) مسلسل تعرضه mtv، يومياً منذ أكثر من أسبوع، وصل عدد حلقاته المعروضة اليوم إلى أكثر من 15. وعلى الرغم من ابتعاده ـــ ربما لأسباب قانونية تتعلق بعائلة الضحية ــــ عن القول بأنه مأخوذ من قصة منال عاصي، فإنه ينهل من بعض تفاصيل الجريمة وحيثية الزوج الجاني، ليضيفها إلى باقي المشهد الدرامي المتخيّل. فاسم المسلسل المأخوذ بالطبع، من آخر كلام قالته الضحية. وهو يصوّر نفسه، ضمن حملة دعائية ضخمة (إضافة إلى الاستعانة بماريتا الحلاني لغناء شارة المسلسل) قادتها قناة «المرّ» قبل انطلاق العرض، على أنه يرفع لواء نصرة المرأة، ويدين العنف الأسري، ويهدف من خلال الدراما إلى تجسيد وإيصال قصص نساء معنّفات وصل بهنّ الأمر إلى الموت على يد أزواجهن. لكن من خلال ما شاهدناه من حلقات، تتظهر سريعاً الخطوط السردية، التي تتّخذ من جرائم العنف الأسري مدخلاً، لا للإضاءة عليها، والتنوير في أحكامها القانونية، بل مرة لتلميع صورة رجل الأمن، ومرة أخرى لدخول دهاليز متشعّبة، عبر عرض قصص موازية تضيّع الحبكة الأساسية.
لعلّ أبرز ما يمكن أن نتحدث عنه في «بردانة أنا» هو دخول نديم مهنا إلى عالم الإخراج بعد الإنتاج. كانت ربما خطيئة بأن يتولى مهنا إخراج المسلسل، الذي باتت أخطاؤه وكادراته مثار سخرية، بدل أن تخدم سياق العمل. أخطاء بالجملة، شهدها المسلسل ولا يزال، كأنّ منفذه شخص أقرب إلى هاو، لا يجيد توظيف الكاميرا ولا تقنياتها. مرة نشاهد تصويراً جوياً، يقطع حديثاً حاصلاً بين عائلة الضحية أمام المخفر، ومرة أخرى، يتفنّن مهنا، في اللعب بتقنية «الزووم إن» (لقطة مقربة) بطريقة مفاجئة على وجوه الممثلين/ ات، بشكل يقطع الحوار وأداء الممثلين. إلى جانب هذه الخطيئة، يتيقّن المشاهد أنّه أمام عمل درامي يغرق في اللعبة التسويقية أكثر مما يحمل قضية إنسانية، عبر افتعال قصة حب بين «دانيا» (كارين رزق الله) و«زياد» (وسام حنا) النقيب في الأمن الداخلي، اللذين التقيا في المخفر بعد محاولة دانيا قتل زوج شقيقتها التوأم «باسم» (بديع أبو شقرا). اشتعل الحب في ذاك المكان، فضاعت القصة عن مقتل «حنين» على يد زوجها الذي يعاني من اضطربات نفسية خطيرة، وراحت تُعالج على شاكلة إضاءات بسيطة على المطالبة بسجنه، وكيفية مساهمة القوانين في بقائه خارج السجن، عبر تحويل القضية من «عنف أسري» إلى «جريمة شرف» فـ«يحلّل» بذلك قتل المرأة على يد زوجها.
خطوط عدة استوحتها مرشليان من قصة عاصي، بدءاً من قتلها بالطنجرة، مروراً بتنازل والدتها (رولا حمادة بدور سميرة) عن حقها القانوني في ملاحقة الجاني وندمها لاحقاً على التستر على العنف الذي كانت تتعرّض له ابنتها، وصولاً إلى عمل الجاني في توزيع المياه في الأحياء... كلّها خطوط وضعتها الكاتبة في المسلسل، وزادت عليها تفاصيل متخيّلة، كشقيقة الضحية التوأم «دانيا»، وإنجابها توأماً بدورها، إضافة إلى تفرّع القصص لتطال قصة امرأة (نهلا داوود) تعشق شقيق الضحية الذي يصغرها عمراً، وتعيش معه علاقة حب «تنفيذاً لرغباتها الجسدية»، وقصة «باسم» الذي قتل زوجته انتقاماً من شقيقتها بسبب حبه لها.
خطوط عدة استوحتها كلوديا مرشليان من قصة منال عاصي

تضيع القصة هنا، مع إشارات ضئيلة إلى قضية العنف الأسري (محامية من جمعية «كفى»)، التي ضاعت في بحر القصص الأخرى الأكثر إثارة، وترقباً لما سيحدث بين «دانيا» و«زياد» تبعاً لسلسلة البروموهات التي تبثها المحطة يومياً. ولعلّ الأمر الأكثر فظاعة، هو تصوير المسلك القانوني الذي يجحف بحق المرأة وينصف الرجل المعنّف، تبعاً لتوظيف أحكامه، على أنه المسلك النظيف والطريق الوحيد لنيل الحق في لبنان. هذا الأمر يجسده النقيب زياد حرب (وسام حنّا)، الذي يمثل رجل الأمن الخائف على حقوق الناس، والصارم لجهة صورة رجل الأمن في بلاد الأرز. كأن الكاتبة أرادت إعطاء صورة جميلة عن الأمن، وتعاطيه مع الناس (يفرد لحبيبته بداية غرفة خاصة في السجن)، وحرصه على الاستحصال على الحقوق (العمل على عودة ابنتيّ حنين إلى عائلة جدتهما سميرة)، إضافة إلى تصويره بصورة الرجل العاشق... مع تسجيل أداء مبالغ به لرزق الله، وجهد واضح من قبل بديع أبو شقرا، الذي عمل على تجسيد الدور المنوط به بحرفية على الرغم من صعوبة تقبّله بشكل شخصي. فكما هو معلوم يعتبر أبو شقرا من أهم الوجوه المدافعة عن حقوق المرأة. أما رلى حمادة التي أدّت دور الأم الخائفة على أولادها التي تتخذ من التقاليد الاجتماعية موئلاً لها، فلم يسعفها دورها في العمل، وربما يعود الأمر إلى غياب متانة النص، لتتبعه قوة في الأداء.
قبل انتهاء العمل في حلقاته الستين، يسقط كما غيره في دائرة التسويق التلفزيوني أكثر من حمله قضية إنسانية ومحاولة تفنيدها من وجهات نظر قانونية ونسوية. وإذ بنا، أمام قصص متفرقة تسلّي المشاهد وتسكت حشريته، فيما تعتّم على قضايا العنف الأسري وتلميع سجلات قوى الأمن في لبنان!

* «بردانة أنا»: يومياً بعد نشرة الأخبار المسائية على شاشة mtv