لا يبالغ كثيرون من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي عندما يكتبون في وداع تلفزيون «المستقبل»: «إنكم تقتلون رفيق الحريري مرة ثانية». الشاشة الزرقاء لم تكن ذراعاً إعلامية عادية لرئيس حكومة عادي، بل هي التي شكلت صورته مؤسّساً للبنان جديد يعيد بناء نفسه بحماسة حرب طويلة أنهكته. أمر لم تنجح في القيام به مع وريثه سعد على الرغم من استخدامه لها سلاحاً فتاكاً خرق كلّ الخطوط الحمر
■ ■ ■

في نهاية عام 2004، عرض تلفزيون «المستقبل» المسلسل السوري «الخيط الأبيض» ضمن دورة برامج شهر رمضان، الذي لطالما حمل شعار «الشهر الفضيل للشاشة الأفضل». يدخل المسلسل عالم التلفزيون وبرامج الحوار من خلال شخصيتَيْ جمال سليمان وجومانا مراد، التي تخصّها القناة بسيارة، بالإضافة إلى تقديمات مادية أخرى. بعد انتهاء المسلسل، يحلّ أبطاله ضيوفاً على زافين قيومجيان في «المستقبل»، فيسأل مراد ضاحكاً: من الذي أخبرك أن التلفزيون يعطي الإعلامي كلّ ما حصلت عليه؟ أين هي هذه القناة التي أعطتك كلّ ما رأيناه؟

«فيوتشر تي. في»
بعد إحدى عشرة سنة على التأسيس، ربما كان زافين قد نسي أن القناة التي سأل عنها وُجدت بالفعل، ولو لفترة بسيطة من الزمن، وكان اسمها «الفيوتشر». لم يكن اسم «المستقبل» محبّذاً كثيراً يومها. صحيح أن العاملين فيها لم يحصلوا على سيارات خاصة، لكنهم حظوا برفاه مادي ملحوظ. يتنقلون برفقة سائقين في سيارات بيضاء صغيرة مزينّة بـ«لوغو» جميل أزرق في شوارع بيروت وبقية المناطق، كأنهم في سيارات أمنية لقدرتها على اختراق كلّ الحواجز والأماكن، حاظية بالترحيب، ليس في لبنان فقط، بل في سوريا أيضاً. لا ينسى الفريق الذي غطى تشييع الراحل باسل الأسد في القرداحة عام 1994 كيف استثنيت سيارات «الفيوتشر» من الإجراءات الأمنية الخاصة وسُمح لها بالاقتراب إلى أقرب نقطة يمكن لسيارة أن تصلها، فيما اضطر آخرون من سياسيين وإعلاميين إلى التقدّم سيراً على الأقدام لمسافة غير بسيطة في نهار ماطر.
الإنفاق لم يطل الشكل فحسب، بل حظي المؤسّسون القادمون من انتماءات سياسية وفكرية وطائفية مختلفة بفريق من المدرّبين في مختلف الاختصاصات. وكانت التدريبات التي سبقت الانطلاق صارمة إلى حدّ أنه يمكن إلغاء «ستاند آب» جرى العمل عليه طيلة النهار بسبب ورود خطأ لغوي واحد فيه. كلّ هذه الأمور كانت مضافة إلى حقوقهم كموظفين، إذ حصلوا على رواتب مرتفعة، وتأمين صحي بنسبة 100%، وبدل مواصلات، ومكافآت تحفيزية (bonus). تقديمات لم تكن متوفرة في أي مؤسسة إعلامية أخرى، وهذا ربما ما دفع النائب بهية الحريري، عندما استقبلت العاملين في التلفزيون أول مرة في منزلها، وبعدما سألت كلّ شخص منهم عن الجهة التي قدم منها إلى القناة، إلى القول: «لا تنسوا يوماً من أين أتيتم». لكن هذا البذخ في الإنفاق لم يستمرّ طويلاً. كأنه كان مطلوباً للانطلاق كنوع من الاستعراض، تماماً كما كان المطلوب موقع مميّز، «لاند مارك» يحتضن شاشة رئيس الحكومة «المخلّص» الذي سيبني لبنان الجديد، فكان القصر الرئاسي الشهير الذي أقام فيه الرئيس بشارة الخوري في القنطاري في بيروت، واشتراه الحريري في منتصف الثمانينيات، وليس في صيدا كما كان مقرّراً في البدايات... قبل وصول الحريري إلى الحكم.

قرار التأسيس
لم يكن رفيق الحريري قد عاد إلى لبنان، ولا تسلّم رئاسة الحكومة، عندما حجز له الصحافي الراحل أسعد المقدّم تردّداً يتيح له إنشاء تلفزيون، في عجقة قنوات التلفزة التي كان يتجاوز عددها الأربعين عشية انتهاء الحرب، والعمل على تنظيم قطاع الإعلام المرئي. تنقل مي شدياق عن رئيس مجلس إدارة «أل. بي. سي. آي» بيار الضاهر إنه عرف بخبر إنشاء القناة من نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام مطلع التسعينيات: «كان مريضاً في فرنسا وعرض عليّ سياسي لبناني أن نزوره، خلال الزيارة أبلغني القرار بإنشاء محطتَيْ تلفزيون في لبنان: واحدة للمسيحيين وهي «أل. بي. سي»، والثانية للمسلمين وهي «المستقبل»»..
وهذا يعني أن فكرة إنشاء تلفزيون كانت في ذهن الحريري قبل تسلّمه أي مسؤولية رسمية، لكنها لم تلقَ ترحيباً في أوساط عدد من مستشاريه الذين ذكّروه بأنه يملك 49% من أسهم تلفزيون لبنان إضافة إلى أسهم في مؤسسات إعلامية أخرى أبرزها «النهار»، فما حاجته إلى مؤسسة إعلامية خاصة به. ومن النصائح التي أُسديت إليه قول نهاد المشنوق له: «لماذا نستفزّ؟ كثيرون لديهم تلفزيونات وجرائد ولن نربح الكثير من تلفزيون خاص؟». خيار الحريري رجّح كفة من قالوا له «يجب أن تكون لديك قناة خاصة بك، تملكها بنسبة 100%، إذ لا أحد يعرف كيف تتطوّر الأمور».
أحمد قعبور ربط القناة بالذاكرة البيروتية مستخدماً عبارات المجاملة التي يتميّز بها ابن البلد


كثيرة هي الأمثلة التي أكدّت صواب القرار لاحقاً، فقد كان الحريري يدفع للكثير من الصحافيين في لبنان، ويفاجأ أن بعضهم لا يتوقف عن مهاجمته. أحد الأمثلة «الطريفة» يرويه صحافي مقرّب عن الحريري عن مانشيت نشر في «البيرق» يقول ما مفاده «لو يقصّ الحريري لسانه»، كتبه نقيب المحرّرين الراحل ملحم كرم بعدما تواتر إليه أن الرئيس شارك في حديث ساخر يطاله. فوجئ الحريري بهذه المانشيت، إذ كيف يكتب كرم ما كتبه على الرغم من حجم المساهمات التي يتقاضاها منه لصالح صندوق نقابة المحرّرين؟

بناء الهوية
استقرّ الرأي إذاً على إنشاء القناة، وأوكلت المهمة إلى عبد اللطيف الشمّاع وعلي جابر. الأخير كان قد درس في الولايات المتحدة الأميركية ولديه الكثير من الأفكار الجديدة والجريئة، فجهد ليطلق محطة رائدة في الصناعة التلفزيونية تقدّم صورة جميلة، صوتاً نقياً، تستخدم تقنيات ممتازة ليستفيد منها كادر مميّز ومدرّب.
لم تبخل القناة على نفسها بشيء، أمّنت كل ما تحتاج له من أدوات واستقطبت كلّ من يمكن استقطابهم من مهنيين كفوئين في مختلف المجالات انضمّوا إلى المؤسسة الناشئة على الرغم من التساؤلات التي كانت قد بدأت ترتسم حول مشروع صاحبها. كلّ شخص انضم إلى فريق الحريري وجد لنفسه مبرّراً. منهم من كان مقتنعاً، ومنهم من اقتنع لاحقاً ووصل به الأمر إلى كتابة القصائد في مديح الحريري. أما الذين تردّدوا، فبرّروا الأمر بالحاجة المادية في ظلّ ظروف اقتصادية سيئة رافقت انتهاء الحرب، أو بالرغبة في تقديم عمل جيّد توفره الإمكانات المتاحة. المهم أن الجميع، باختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والطائفية، تحمّسوا للعمل. الإتقان كان هاجساً ألقى بثقله على الجيل المؤسّس. الكثير من الأفكار الجديدة والجيدة طُرحت، وكان أطرفها أننا «لن نكون قناة تنقل أخبار الرئيس، بل قد نفتتح النشرة بخبر اجتماعي مثلاً».
الفواصل التي رسمت هوية القناة احتلت سريعاً مكانتها في القلب. عبر «المستقبل»، استعدنا «الطربوش» الذي ارتداه سامي حمدان (مؤدّي «عن إذنك نص دقيقة») والذي يعلن كثيرون اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنه يشكل جزءاً من علاقتهم بـ«المستقبل». الفكرة للمبدع أحمد قعبور، ابن «الطريق الجديدة»، الذي ربط «المستقبل» بالذاكرة البيروتية مستخدماً عبارات المجاملة اللطيفة التي يتميّز بها ابن البلد: ممنون، ولعيونك، وعن إذنك. مفردات لا علاقة مباشرة لها بصاحب القناة، لكنها التصقت به حتى شكلت إحداها (لعيونك) شعاراً في حملات انتخابية لاحقاً. وهذه هي قيمة التلفزيون التي تخلى عنها الرئيس سعد الحريري محوّلاً إياه إلى سلاح بالمعنى الفعلي للكلمة في حين استخدمه الحريري الأب مرآة لمشروعه القائم على بيع الأحلام لمواطنيه وتغذية مخيلتهم. ومن كتب بيان تعليق العمل في تلفزيون «المستقبل» أول من أمس، يدرك جيداً أهمية هذه القناة بالنسبة إلى أصحابها، فذكّر بأنها كانت «على صورة اللبنانيين وتنوّعهم وعيشهم المشترك وعشقهم للثقافة والحرية والانفتاح والفرح»، لأن مؤسسي القناة انطلقوا من هذه الرؤية قبل 26 عاماً ليواكبوا مشروع «إعادة الإعمار» الذي أطلقه رئيس الحكومة القادم إلى لبنان بعد حرب طويلة.

سياسة اللاسياسة
لم تنجح القناة في ما رسمته لنفسها في البدايات، أن لا تكون وسيلة إعلام الرئيس. لا لجهة عدم إبراز أخباره، ولا لجهة عدم الالتفات إلى حساباته السياسية. كان كلّ ما يبثّ على القناة، وفي نشرة الأخبار تحديداً، يفهم على أنه رسالة سياسية من الحريري إلى طرف ما والأمثلة كثيرة ويذكرها الزملاء جيداً: إذا أعدّ تقرير عن السلاح الفردي مثلاً، يكون الحريري قرّر مهاجمة وزير الدفاع آنذاك محسن دلول (وهو قريبه)، وإذا أعدّ تقرير عن مجلس الجنوب، يتوقف عرضه على الهواء قبل أن ينتهي. هذا الأمر ضيّق الخيارات المتاحة لعمل مهني حلم به المؤسسون، لكنه لم يزعج الحريري الذي اكتشف مواهبه التلفزيونية فراح يتدخل مباشرة في العمل، بدءاً من الاتصال بالمذيعين للفت نظرهم إلى خطأ ارتكبوه في اللغة العربية وصولاً إلى تأليف الفواصل الترويجية مثل «البلد ماشي والشغل ماشي ولا يهمك» الذي كتبه بنفسه. كانت المعادلة سهلة بالنسبة إليه لكي يربح على خصومه: أن يجعل من نفسه، من رؤيته، مادة للسجال، فهذا يكفي للتأثير على النظام السياسي من دون الحاجة إلى الخطاب الحاد والمباشر.
اكتفى من التلفزيون بالجو الذي أشاعه: «أجواء من الفرح المستمر». هذا ما كان مطلوباً من قناة لا تستطيع مجاراة lbci في الترفيه، ولا قول الحقيقة كاملة في نشرات الأخبار، ولا تقديم برامج سياسية تحظى بمصداقية. خيض التحدّي وقدّمت الشاشة الزرقاء برامج مميزة نجحت في اختراق الكثير من البيوت في لبنان، سوريا، ولاحقاً الوطن العربي. أطلقت البرنامج الصباحي الناجح «عالم الصباح»، وختمت بالليل المفتوح، وبينهما «خليك بالبيت» و«سيرة وانفتحت» و«الحلقة الأضعف» و«الفخ» وحلونجي يا إسماعيل»، و«سوبر ستار»... كما عرضت أهم المسلسلات المصرية ونافست «ال. بي. سي. آي» التي كانت تحتكر بث مباريات كرة السلة، ببث حصري لمباريات الدوري اللبناني في كرة القدم، واحتفت بشهر رمضان فارضة برمجة مختلفة على كلّ الشاشات التي لحقت بها.
هكذا تحوّل التلفزيون إلى حزب الحريري الصغير، يتدخل في كلّ تفصيل فيه، عزّز ذلك نجاحه في العالم العربي بعدما انطلق إلى الفضاء، وتحقيقه للأرباح المادية في مرحلة معينة، فصار كلما سافر إلى دولة ما، يُسأل عن برامج التلفزيون وعن نجومه، بل نجماته.
هذا النوع من البرمجة يلعب دوراً غير مباشر في تعزيز الشعبية السياسية لأنه يلبي حاجات الجمهور ورغباته. بخلاف التلفزيون الذي بدأ يتشكل مع خروج الحريري من الحكم في عام 1998، ثم مع رحيله في عام 2005: دعائي مباشر يقوم بدرجة أولى على التضليل وليس على بناء المخيلة.

الحقيقة لأجل لبنان
بين عامي 1998 و2005، مرّت القناة بمحطات سياسية حرجة: خروج الحريري من الحكم مع وصول الرئيس إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، انتخابات عام 2000، إطلاق صواريخ على مبنى القناة في الروشة في منتصف حزيران (يونيو) 2003، ثم محاولة اغتيال النائب مروان حمادة نهاية عام 2004. أحداث فرضت تغييرات في القناة كان خلالها الخطاب السياسي يعلو وينخفض خصوصاً مع إطلاق برنامج «الاستحقاق»، مطلع عام 2004، وهو أول برنامج سياسي في القناة تولاه علي حمادة لمواكبة الاستحقاق الرئاسي وخوض معركة رفض التمديد. ومع اغتيال الحريري في عام 2005، والأحداث الكثيرة التي تلت، تغيّرت البرمجة بالكامل واتجهت القناة نحو السياسة والمواجهة، فولد الكثير من البرامج كان أبرزها «التحقيق لأجل لبنان» بالتوازي مع إطلاق شعارات جديدة أبرزها «لأجل الحقيقة» و«لأجل لبنان». وتحوّلت فواصل الفرح المستمرّ إلى عدّادات تنتظر الحقيقة.
لم يكن المصاب بسيطاً، لذا نسي الطفل المدلّل للحريري الأب كلّ ما كان قد روّج له. خاض مواجهة قاسية بوصفه الناطق باسم تحالف 14 آذار، لم يوفّر فيها كلّ أنواع الأسلحة المتاحة، حتى أنه استعان بمولود جديد انطلق في عام 2006 (المستقبل الإخبارية). لكن الضائقة المادية لم تتأخر في إعلان نفسها، ليقفل الاثنان، واحد تلو الآخر في ظروف مناقضة تماماً للتأسيس: القناة التي شهدت شهوراً من التدريبات سبقت انطلاقتها، وبذخاً في الإنفاق، تعلّق عملها بعد شهور من الإضرابات والاعتصامات، وسنوات من التوقف عن دفع الرواتب والتعويضات.
هذه مرحلة تستحق الدراسة بدورها، لكن اللافت أنّ كثيرين لم يقفوا عندها في وداعهم للتلفزيون. البدايات هي التي بقيت في الذاكرة والوجوه التي رسمت هوية التلفزيون هي التي تستعاد، في حين غابت المرحلتان اللتان تلتا: خوض الحريري الأب في السياسة، وتحوّلها إلى سلاح بيد 14 آذار مع الحريري الابن. وهذا يؤكد أن ما استطاعت القناة فعله من دون «سياسة» بالمعنى الحرفي للكلمة، لم تنجح فيه عندما تحوّلت إلى سلاح بالمعنى الفعلي للكلمة.