ثلاث ساعات ونصف على قناة «المنار»، سمحت لنا في الدقائق الأخيرة أن نطرق باب السيّد، السيّد «الأب» و«الأخ». السيّد المقاوم صديق المقاومين وأخوهم. ذلك الرجل الذي كان يقضّ، قبل قليل، مضاجع العدو. كان يضع الخطوط الاستراتيجيّة لأي حرب في لبنان والمنطقة، ويمسح بكفّه على كيلومترات «زوال إسرائيل». تحوّل قائد الملايين، العسكري، الخطيب «الكاسر للتوازن» وقوّة الحرب النفسيّة، في لمحةٍ، إلى إنسان «ضيعاوي» كما يصف نفسه «أنه منهم» بكل أوجه التواضع. يقول شيمون بيريز، ضمن تحقيقات لجنة «فينوغراد» في نتائج حرب 2006، إنّ «الأقوال والكلمات في الحرب هي قنابل أيضاً. انطوت الحرب على هزيمة نفسيّة كبيرة جداً، وهذه الهزيمة نشأت عن أن حزب الله تباهى بناطق لا تعوزه الكفاءة، هو أمينه العام حسن نصرالله». كما يشهد عضو اللجنة الوزاريّة المصغّرة التي أدارت الحرب، إيلي يشاي، قائلاً: «لقد لاحظت وجود حربين مشتعلتين: عسكريّة ونفسيّة. أدار حزب الله معركة نفسيّة ناجحة، برغم انعدام المُقارنة بين قدراته وقدراتنا. إسرائيل فشلت في أدائها الإعلامي خلال الحرب، وأبقت المنصّة للعدو، فلم يمر يوم مِن دون أن يُهبّط نصر الله معنوياتنا ويتلاعب بأعصابنا، قائلاً إسرائيل تُهزم، إسرائيل تُهزم».على الجانب الآخر، وفي بداية «الزيارة» الخاصة للسيّد، لم تستطع تعابير الفرح أن تصمد خلف الجدران، حين سأله الإعلامي عماد مرمل عن نجاح ابنه في الامتحانات الرسميّة. خرجت مشاعر الفخر الأبويّ إلى قلوب المشاهدين. خانته التعابير. «كنت مبسوط متل أي عيلة نبسطنا»، يقول السيّد، رغم محاولته إظهار الأمر «عادياً» قدر المستطاع. قدّم السيّد الأب نموذجاً في التربية، ممازحاً ابنه قبل ليلة من صدور النتائج «إذا ما نجحت مش مصيبة ما تقوم تنتحر»، منتهزاً الفرصة للدعوة إلى ضرورة إعادة النظر في حالة الرعب التي سببتها وزارة التربية للطلاب هذا العام، ولإعادة النظر في مقاربة الأهالي الخاطئة للرسوب. «ساعدوهم على النجاح من خلال الترغيب» يدعوهم بغصّة، بعد الأحداث المؤلمة التي حصلت مع بعض الراسبين. لم يحدّد نوع الهديّة التي سيختارها بعد لمحمد مهدي، نجله الأصغر، بضحكة يقول «بعدني ما فكرت». أثقلته هموم القضايا الكثيرة التي يحملها على كتفه. كان لافتاً أن فرحته لم تكتمل، فهو لم يحتضن ابنه بعد، «الظروف الأمنيّة لم تسمح بذلك». يوضح كيف اختار مهدي اختصاصه الجامعيّ بمفرده. هنا ديمقراطية الأب، القائد الأول، لم يفرض قيادته في خيارات ابنه. هذا درس للآباء أيضاً، الذين يختارون نيابة عن أولادهم مسار مستقبلهم. إلى حزنه على أخته ينتقل، اخته التي يجلّها ويحترمها. بحزنٍ يُعبّر على «فقد حبيب وعزيز. كما كل أخواتي كنت أحبها وأجلّها وأحترمها وقد غادرت في سنّ مبكرة». المرض الخبيث لم يرحم عائلة السيّد أيضاً. في سياق حديثه عن عوائل الشهداء، يتحدّث السيّد نصرالله بصيغة المتكلّم. يتذكّر ضمناً عوائل الشهداء التي قدّمت وحيدها أو حتى تلك التي قدمت ثلاثة أو أربعة شهداء. كأنه يتراجع، يوضح على عجل: «لا أتحدّث عني أنا. أقصد عوائل الشهداء». كأنه ليس منهم؟ بكل تواضع، لا يعتبر نفسه أفضل منهم في شيء.
ختامها مسك، في الحوار الخاص مع الأمين العام لحزب الله، يقول السيّد نصرالله «إني أحبّكم».. «إني» جازمة، قاطعة. يعيدنا في الذاكرة إلى رسالته للمقاومين إبان حرب تموز. كلمات ما زالت تنبض تلاحماً بين القائد ورجاله، كأنها في الأمس. «أنا أشعر أنني واحد منكم»، «متل في أيام المقاومة، كنا في ظروف صعبة مش وقت مجاملات كتبتلهم وقلتلهم شكري لكم أنكم قبلتموني واحد منكم وأخاً لكم. أنا أفتخر بكل هذه الألوف أنها تعتبرني واحداً منها تحبني وأحبها ما في شي أغلى من هيك». تختصر هذه العبارات حبّ السيّد للناس، «أشرف الناس»، الذين خاطبهم أكثر من مرة معبّراً بصدق عن مشاعره تجاههم، وقد وضع لهم سابقاً، لهذا السبب، صورة خلفه.
استذكر الحاجة الراحلة كاملة سمحات، صاحبة الموقف الشهير: «إن شاء الله السيّد حسن بضل تاج، ورافعين راسنا فيه، وهو رفع راس الأمّة كلّها... وليك، كلّ يلّي صار، مش هيدا بيتي راح؟ فدا إجر المقاومة، وبيتي بالضيعة راح، ولك فدا إجرها للمقاومة». تلك العبارة التي خلّدتها الحرب. يتذكرها السيّد، يدحض بها شكوك الكارهين بنيّة الولاء.
لعلّ المحاور لم يُخطئ طيلة ساعات المقابلة، كانت الـ«أوف» ترافق أجوبة الضيف النارية، لكنه فعل حين وصل إلى السيّد الأب فبدا مرتبكاً. يبدو أن هيبة نصرالله الأبّ كان وقعها أقوى من هيبة القائد. مرمل لم يحتسب الساعات بدقة، صحّحها له السيّد بالدقائق. كيف لا، وهو الذي يصحّح لغته العربية في خطابٍ عفوي يحضر فيه شخصيّاً بين الناس تحت خطر طائرات العدو. أخفق مرمل حين قال للسيّد «بدك تنام» عندما أراد إنهاء المقابلة. السيّد قلق على المشاهدين، لا يحب إرهاقهم. يصوّب له فيقول: «لا، العالم بدا تنام». «العالم» وليس هو. لم يعرف السيّد كم تمنوا لتلك الدقائق مع «نصرالله الأبّ» أن تطول. فهو في الأيام العادية لا ينام إلا ساعات قليلة، فكيف في حال مخاطبة الناس والتحدّث إليهم. ذكر ذلك في أكثر من مناسبة. لم يكن على عجل لنفسه إذاً. سقط سهواً من المحاور أن المحبين يتابعون وبشغف حديث السيّد. يدرك نصرالله صدق مشاعره وتأثيرها على المستمعين. لا يسّرها في نفسه، يشاركها معهم كأي إنسان عادي. دقائق قليلة، في ختام الحوار، أتاحت للمشاهدين طرق باب السيّد الأب، الذي لم نلامسه من قبل، حتى عند استشهاد نجله هادي.
* صحافية لبنانية