كنجم ساطع، بقي ليف برونستين الشهير بليون تروتسكي في سماء السياسة العالمية طوال النصف الأول من القرن العشرين حتى اغتياله عام 1940 في منفاه المكسيكي على يد عميل للمخابرات السوفياتيّة، وبأمر من جوزيف ستالين. لا تختلف المصادر التأريخيّة سواء المؤيدة أو المعادية له، على دوره الاستثنائي إلى جانب لينين في نجاح ثورة أكتوبر 1917، حتى قال أحدهم بأنه إذا كان لينين عقل الثورة وفيلسوفها، فإن تروتسكي كان المنتج المنفّذ للثورة وقائدها العسكري وخطيبها المفوّه. تروتسكي، وهو لقب حركيّ غلب عليه منذ كان في الثالثة والعشرين من عمره استعاره من كنية أحد سجّانيه، عاش حياة مفعمة بالدراما كان مسرحها العالم كلّه. بعد عداء مع البلاشفة الثوريين الروس، التحق بهم، وصنع معهم ثورة غيّرت وجه العالم ودفعت الحكومات البورجوازيّة إلى فرض حصار خانق على روسيا ودعم ثورة مضادة دامية فيها بمشاركة جيوش 21 دولة. كما شرّعت الباب لإطلاق حركات فاشيّة شعبوية تضعها في مواجهة الموجة الثوريّة الماركسية في الشارع. حركات ما لبثت أن تسبّبت للكوكب في مأساة الحرب العالمية الثانية. بعد النجاح الأوّلي للثورة، تولى تروتسكي تأسيس الجيش الأحمر الذي خاض مواجهات هائلة مع قوات الرجعيّة الروسيّة الأفضل تدريباً وتجهيزاً، وحقق بقيادته انتصارات مشرّفة.
لكن تروتسكي لم يكن مجرد ثوريّ شجاع، بل كان أيضاً مفكراً وكاتباً، عاش شطراً من حياته بعد نفيه من قِبل النظام الستاليني عام 1929 معتمداً على عوائد مبيعات كتبه ومقالاته. وبحسب الرّوايات التاريخيّة، فإن لينين في أيّامه الأخيرة كان يرغب في تسليم السلطة إلى تروتسكي الذي أثبت شجاعة وكفاءة وقدرة في غير موقع، لكنّ البيروقراطيّ المتآمر ستالين نجح في التأثير على المكتب السياسي للحزب من خلال التهديد والوعيد وإثارة نعرة العداوة القديمة مع جناح تروتسكي قبل الثورة بل ربّما التذكير بأصوله اليهوديّة، ليتولى هو السلطة ويأخذ تجربة الثورة العمالية الناجحة الأولى في التاريخ إلى مصيرها القاتم الذي نعرف. وقتها، لم يكن تروتسكي بالشخصيّة التي تطأطئ رأسها بالتخويف. هكذا سرعان ما اصطدم بستالين وانتهى إلى الإبعاد عن البلاد التي قاتل من أجل ناسها طوال حياته.
أصبح تروتسكي بعد ذلك مرجعاً وملهماً لكل الثوريّين الذين انفضوا عن تجربة نظام ستالين حول العالم، وصوّره رفاقه كنبيّ مبجّل، وأصبحت سرديته عمّا يجري داخل روسيا وقتها مصدراً وحيداً تقريباً بالنسبة إلى الغرب. وقد توّلى كثيرون بعد اغتياله استخدام اسمه في جبهات نضاليّة عدّة كانت تجاهد لإبقاء الفكرة الماركسيّة حيّة في مواجهة التحجر الأرثوذكسيّ لشيوعيّة موسكو الرسميّة (لكن معظم هؤلاء انتهوا مقرّبين بصورة مباشرة أو غير مباشرة من المخابرات المركزيّة الأميركيّة التي وظّفتهم خلال الحرب الباردة لاختراق الاتجاهات اليساريّة وتفتيتها). ولا شكّ في أنّ اغتياله غيلة أكسبه شيئاً من هالة الشهداء في أذهان كثيرين.
حتماً كان تروتسكي شخصيّة متعددة المواهب، وبطلاً من نوع خاص، لكنّه بالطبع لم يكن نبياً كما يصوره أتباعه ومريدوه. وربّما لم تكن مساهماته الثوريّة على الصورة التي وضع نفسه بها كما في كتابه الضخم عن تاريخ الثورة الروسيّة الذي ظلّ لفترة طويلة مرجعاً أوّل في غياب روايات لأطراف ثالثة. كما أنّ ستالين ليس تلك الشخصية البلهاء عديمة الكفاءة كما وصفه غريمه تروتسكي في كتاباته وبياناته السياسية. وقد احتاج المؤرخون إلى الانتظار 50 عاماً أخرى حتى أمكنهم الاطلاع - ولو جزئياً - على أرشيف وثائق الحزب الشيوعي والدولة السوفياتية، من أجل بناء صورة أكثر واقعيّة عن حياة أبطال 1917 وما بعدها. لكن الطبقات الحاكمة تعيش دائماً تحت خوف مقيم من ثورة تقتلعها. ولذا، فإن ذكريات الثورات القديمة حتى بعد انقضائها بسنوات أو عقود، تظلّ تطارد مخيلتها، فتبذل غاية الجهد لطمرها تحت جبال من الكذب، ولا تخفي الحقد على رموزها. لقد بقي المؤرخون البورجوازيّون الفرنسيون يصبون جام لعناتهم على رأس روبسبير لأكثر من ثلاثة قرون بعد اقتحام الباستيل. وكان أوّل ما فعله الملك الإنكليزي تشارلز الثاني بعد عودته من فرنسا لاسترداد عرشه، أن أخرج جثة أوليفر كرومويل – قائد الجمهوريّة التي أطاحت بحكم أسلافه – من قبره وأمر بشنقها. وهذا هو تماماً حال روسيا اليوم التي يقودها بوتين كقيصر جديد يدير مجموعة مصالح القوى الرأسماليّة وطبقة الأوليغارشيين الجدد الذين صنعوا ثروتهم من سرقة مقدرات الدولة السوفياتيّة البائدة لحظة انحلالها.
لذلك، فنظام موسكو الحالي لا يخفي عداءه لثورة أكتوبر 1917 ورموزها، وقد تحدّث بوتين بصراحة حول هذا الأمر (انظر خطابه مثلاً أمام المعلمين والتلامذة الروس في 2017). لكن الإعلام الغربي وتابعه العربي الذي يناسبه أن يحتفظ بصورة العدو السوفياتي حيّة خدمةً لصناعة السلاح والحرب، يتجاهل ذلك عمداً. حتى إنّ عديدين في وقتنا الراهن ما زالوا ينظرون إلى موسكو بصفتها نصيرة الثّورات والاشتراكية والفقراء. هذا النظام الذي أعاد الاعتبار لأسرة رومانوف القيصريّة، ومنح السكيّر العابث راسبوتين مرتبة قدّيس، وجد نفسه متلعثماً أمام مناسبة الاحتفال بمئويّة الثورة. كانت روسيا ربما الدولة الوحيدة في العالم التي لم يجر فيها احتفال رسمي في 2017، بينما تداعى من تبقى من الرفاق القدامى إلى احتفالات رمزيّة بسيطة في كل مدن العالم الكبرى. ولا شك في أن الخوف من استعادة الأجيال الجديدة لسرديّة الثورة في مئويتها، كان وراء القرار بإنتاج مجموعة أعمال دراميّة ووثائقيّة تروي أحداث تلك الأيّام وفق سرديّة مضادة تخدم القيصر الجديد وأتباعه. الفريق الذي تولى فكرة إنتاج مسلسل يحكي قصة الثورة، اختار أولاً أن يكون بطلها لينين. لكن حكماء النظام رفضوا ذلك لأنهم كانوا يعرفون أن مكانة الرجل في قلب الشعب الروسي لم تتزعزع كثيراً واقترحوا بدلاً من ذلك صنع مسلسل عن تروتسكي بوصفه شخصية ملتبسة للعديد من الروس الذين تربى آباؤهم على أكاذيب ستالين. كما أن يهوديته قد تكون نقطة لتشويه صورة الثورة والبلاشفة وتروتسكي معاً في مجتمع تتصاعد فيه الشوفينيّة وعداء الأجانب واليهود. وهكذا كُلّفت واحدة من شركات الإنتاج الكبرى بتحضير المسلسل لعرضه على القناة الأولى الأوسع انتشاراً في التلفزيون الروسي، بينما تقرر إنتاج وثائقي أقل دراميّة عن لينين في 16 حلقة على أن يعرض ليلاً خارج أوقات الذروة حيث سيشاهده العجائز فقط.
إيصال سرديّة مسمومة عن ثورة 1917 وأبطالها


النتيجة كانت «تروتسكي» المسلسل الباذخ في ثماني حلقات من بطولة الممثل الروسي قسطنطين كابينسكي، وإخراج أليكساندر كوت وقسطنطين ستاتسكي. وقد اشترت نتفليكس حقوق توزيعه العالمية ويتوافر الآن على منصتها بلغات عدة.
اللّطيف أنه رغم ما بين الغرب وروسيا من عداء إعلامي ودعايات أيديولوجيّة متعارضة، وتحميل الدبّ الروسي وزر كل مصائب الكوكب من انتخاب دونالد ترامب إلى التأثير عن الانتخابات في دول العالم (الديمقراطيّ) وصعود نجم جيريمي كوربن إلى اغتيالات المعارضين مروراً بأزمات السير الخانقة وكلّ ما يخطر في بالك، فإن نتفليكس نسيت ذلك كلّه. وقد أسرعت بتبنّي أحدث منتجات الكرملين المؤدلجة ونشرتها بدون تردد عبر منصتها ليشاهدها الملايين حول العالم. لعل ذلك وحده يجب أن يسبب لنا القلق من محتوى العمل حتى قبل أن نشرع بمشاهدته.
الحقيقة أن المسلسل يكشف أوراقه من اللقطات الأولى: محاولة فاضحة تعتمد تزوير الوقائع التاريخيّة والتلاعب بالأزمنة والحقائق، والكذب البواح لتقديم صورة مغرقة بالسلبية ليس عن شخص تروتسكي وحده، بل عن لينين والبلاشفة والعمال الروس وثورة أكتوبر. حتى إنّه بمقدور الملمّ بتاريخ تلك المرحلة تسجيل هفوة مقصودة أو اثنتين في كل دقيقة من دقائق المسلسل الـ 400.
عمد المخرجان إلى تصوير تروتسكي شيطاناً فاسداً معتم القلب تتمالكه الهلوسات، متعطشاً للدماء والعنف، مكيافيللي النّزعة في السياسة، مزدرياً للنّساء، يتعامل معهنّ كأدوات جنسيّة. وخلاصة هويته الأساس ديانته اليهوديّة، يرتدي زيّاً جلديّاً كأبطال مارفيل الظلاميين، ويحمل رموزاً توراتيّة كما عبدة الشيطان. من خلال التلاعب بتاريخ الشخصيات (زوجته نتاليا سيدوفا ورفيقتاه الصحافية لاريسا ريسنير والفنانة المكسيكيّة فريدة كالو كأنهن مثقفات متهتكات باحثات عن اللّذة، ستالين بطلاً للثورة وذراع لينين اليمنى، رغم أنه لم يظهر تقريباً لحظة الثورة) ومواقيت الأحداث (تقدّم أو تؤخر بضع سنوات كي تلقي بظلال قاتمة على سيرته)، وابتداع أحداث وتفاصيل خياليّة (مقابلة لم تحدث أبداً مع فرويد، أو أن القاتل كان صديقاً شخصياً له)... من خلال ذلك كلّه، يقدّم سرديّة سلبية عن القادة ومجريات الثورة (يصوّرها انقلاباً قاده تروتسكي)، ويدين العمال الروس كهمج ورعاع، بينما يجمّل صورة قاتله ويقلب قصة اغتياله للرجل في بيته رأساً على عقب حتى يكاد يكون القاتل المأجور ضحيّة ذلك الثوريّ ذي الرّوح الملعونة.
يغرف كوت وستاتسكي في «تروتسكي» من أعمال زاك سنايدر ويسرقان أجواء أعمال كريستوفر نولان حول «باتمان» سواء في صوغ ظلال صورة كاميرا المسلسل المسودة، ولون بزة تروتسكي المارفيلية الجلديّة أو حتى في تفسير التحوّل الذي أصاب الشاب المتحمّس ليف برونستين ليتحوّل إلى شخصية تروتسكي الظلاميّة كأنه بروس وين وقتما صار «باتمان».
أثار عرض المسلسل غضباً واسعاً في الأوساط اليساريّة، وألقى التروتسكيون المعاصرون ـــــ الذين ربما لو عرف معظمهم تروتسكي لأنكرهم ـــ قطعاً من الشتائم على بوتين وحاشيته الفاسدة وإعلامييه عديمي الموهبة. لكنّهم في مجموعهم محدودو التأثير، وليس لهم صوت مسموع. والحقيقة أنّ نظام موسكو نجح بالفعل من خلال هذا المسلسل في إيصال سرديّة مسمومة عن ثورة 1917 وأبطالها إلى ملايين الروس من الأجيال الجديدة التي لا تعرف تاريخها. وقد ساندته الأميركية نتفليكس تالياً في تمرير تلك السرديّة لبقيّة الشعوب، ليتكرر على أيديهما اغتيال تروتسكي مجدداً: هذه المرّة معنوياً، بعدما كان ستالين توّلى تصفيته جسديّاً. رسالة بوتين للشعب الروسي وللآخرين عبر نتفليكس من تروتسكي - المسلسل: «لا تفكرّوا بالثورة. الثورة سيئة، والثّوار شياطين وأوغاد».