قبل سنوات، ردَّ مالك نجر، صاحب فكرة مسلسل الأنيمايشن السعودي «مسامير»، على سؤال عن سبب كثرة الإعلانات أثناء عرض المسلسل، في تغريدة عبر حسابه على «تويتر» قال فيها: ««مسامير» عمل يشتغل عليه فريق عمل متفرغ وناس ما عندهم مصدر رزق إلا إنتاج «مسامير» وغيره من رسوم متحركة، رواتب هالناس لا بد تندفع».ويبدو أنّ نجر وجد لاحقاً الحلّ لمشكلة التمويل هذه عبر تطعيم مسلسله (الإجتماعي أساساً) بالسياسة، واستلهام مواضيع حلقاته من أجندة «ولاة الأمر» في المملكة، ومواءمتها مع تقلبات سياستهم الخارجية وأولوياتهم الآنية، فكانت حلقات «جنود الخرافة» و«إخوان الشياطين» على سبيل المثال.
في آذار (مارس) الفائت، روَّج معدّو البرنامج الذي انطلق في العام 2011 عبر «يوتيوب» (تنتجه شركة «ميركوت» لعبد العزيز المزيني) وحصد شهرة كبيرة، بكثافة لافتة لقفزتهم النوعيّة المتمثلة بالفيلم القصير «تحريّات كلب» الذي سيشفي غليل الجمهور المتعطش إلى جرعة أكبر من «الفن الهادف»، بعد حلقات قصيرة لم تتجاوز مدة الواحدة منها 18 دقيقة.
ومع عرض الفيلم (42 د.) الذي حصد سريعاً نسبة مشاهدة عالية عبر «يوتيوب» في 21 آذار ، بَطلَ العجب الناتج عن الترويج الاستثنائي، بعد اتضاح الهدف الاستثنائي الذي يصوّب عليه صنّاع العمل هذه المرة: حزب الله!
الحكاية الغريبة تبدأ مع «مازن»، أمين مكتبة «قدسيّة الكتب» في شارع الفرزدق في الرياض، الرجل غريب الأطوار يقتل بدم بارد مواطناً يُدعى «مقرن بن سعيد» عبر ربط رقبته بحبل ثخين موصول بمؤخرة سيّارته والانطلاق بها بسرعة، مردّداً بصوت أُريدَ له أن يكون مؤثراً تصاحبه موسيقى توحي بالغموض: «أحبّ أن أرثي ذلك الرجل وأنا مشوّه وطريد في تلك الأقاليم الغائمة». وذلك لإقدام الضحيّة على استعارة المجموعة الكاملة للكاتب السوري محمد الماغوط (صاحب العبارة أعلاه) من المكتبة في العام 1412 هجري والتأخّر في إعادتها «حتى اليوم». تذرّع مقرن بالظروف و«حرب صدّام» لا يعفيه من القتل شنقاً وسحلاً، إلا أنّه يعترف قبل تنفيذ الحكم الميداني بحقه، بإهدائه الكتاب إلى ابنه «هذال».
طريقة قتل حارس الكتب للمطرب الشهير «هذال» توحي لمعجبي الأخير بأنّ الرجل انتحر بطريقة مبتكرة ليس إلا! فقد وُجِدَت جثته في الصحراء وقد أسقطت رافعة ضخمة حمولتها الحديدية الثقيلة فوقها، فيما يردّد القاتل عبارة أخرى ــ لا تقلّ عمقاً ــ للماغوط: «أنظر... عقرب ساعتك يتثاءب، وعقرب ساعتي يمدّ رأسه خارج الإطار».
قبل مقتله، يصرّح «هذال» أنّ كتاب الماغوط فُقِدَ أثناء نقل أثاث المنزل من قبل شركة متخصّصة تدعى «حمار المكدة لنقل العفش».
حارس الشركة سيُقتل بدوره لاتصاله بشرطة النجدة، لتشيُّعه عبارة أخرى للماغوط: «ظهري شجرة من الأصابع... شجرة من نار». قبلها، يكون حارس الكتب قد نجح ــ عبر النبش في الأرشيف ـــ في الوصول إلى اسم وعنوان سكن الموظف المتقاعد الذي أشرف على عمليّة النقل في حينه: ابراهيم بن سالم خالد.
ينجو ابراهيم من القتل بعد أن يردّد مع القاتل أبياتاً للماغوط الذي تعدّ مجموعته الكاملة «ألطف ما قرأه في حياته» (يبدو من هذا التفصيل أنّه السّارق الحقيقي للكتاب ولكن هذا لا يهمّ القاتل المزاجيّ). ابراهيم يخبر القاتل عن اسم العامل الباكستاني المسؤول عن هذه المشكلة: «أشرف نظير» ويتكفل بإيصاله إليه.
بالتزامن مع وصولهما إلى المكان الذي يأوي إليه العامل، تصل الشخصيّتان الأساسيّتان في المسلسل الكرتوني «سلتوح بن دخيل الله» وكلبه «ريتشارد قلب الأسد» مدجّجتين بالأسلحة بهدف الانتقام لمقتل صديقهما «أبو غنام» على يد الباكستاني. علماً بأنّه يتبيّن لاحقاً أنّه لم يقتل أصلاً!
يتفاجأ مازن وسلتوح والكلب بأنّ المكان ليس سوى معقل لخلية «إرهابيّة تابعة لحزب الله»، وأنّ العامل الباكستاني المزعوم هو قائدها! وفي صورة نمطيّة مستهلكة، نشاهد أفراد الخلية بوجوههم المقطبة وأسلحتهم الرشاشة، خلفهم راية الحزب الصفراء وتحتهم أكداس الأموال، قبل أن يتكبّد الأبطال الثلاثة عناء تصفيتهم و«تخليص الوطن من شرورهم»، من دون أن يُفهم الدافع وراء تقطيع جثة الباكستاني إلى قطع متساوية العرض إلا إذا كان في سياق تبرير جرائم مشابهة حصلت فعلاً!
مع انجلاء غبار المعركة، يكتشف مازن وجود الكتاب المفقود (محمد الماغوط/ الأعمال الكاملة/ دار العودة ــ دمشق/ طبعة أولى) الذي كان يستخدمه الإرهابي الباكستاني (الجاهل طبعاً) كدعامة يسند بها القائمة القصيرة للطاولة الخشبية التي يجلس إليها.
في الختام، تمنح الدولة المواطن سلتوح وكلبه الوفي وسام الشجاعة لكشفهما عن «خلية إرهابيّة» ثبت تنكّرها كجالية عمّالية، وتكتفي بحبسهما لمدّة يومين لعدم إبلاغهما السلطات قبل خوضهما هذا العمل «البطولي الوطني المبارك».
ويمكن اعتبار إهمال الإشارة في الختام إلى مصير القاتل المتسلسل الذي سفك دماء كثيرة بجريرة كتاب مفقود، دلالة ممتازة على العمى الذي يصيب حكام هذه البلاد وجزءاً كبيراً من صناع الرأي العام فيها إزاء الأخطار الحقيقية المحدقة بهم، مقابل تسعير حالة رعب مختلقة من عدوّ وهمي هو حزب الله.
بعيداً عن تقييم العمل الركيك من الناحية الفنيّة، ورسالته الفجّة والمستهلكة والعنصريّة التي ينضح بها تجاه الجاليات الآسيويّة الوافدة إلى الخليج بهدف العمل، وعن تفنيد خطوة تداعي مؤيّدي المقاومة إلى إبلاغ إدارة «يوتيوب» عن مضمون الفيلم المسيء بهدف حجبه، يبقى السؤال مطروحاً حول معنى إقحام الماغوط وكتاباته في حفلة قتل غارقة في الخفة والتهريج، وعن علاقة الرجل بأكذوبة الخلايا الإرهابية في الخليج. ومن هذا السؤال يتولد سؤال آخر عن مدى فهم كاتب الفيلم لأفكار الشاعر السوري فضلاً عن مجرد حفظ عباراته، ومقدار استفادته من أسلوبه المميز في مقاربة السياسة كوميدياً.
أمّا شريك نجر في كتابة الحلقة عبد العزيز المزيني (وهو مدير شركة «ميركوت» المنتجة للعمل) والذي أكد سابقاً في مقابلة صحافيّة «عدم وجود خطوط حمر تعيق عمله سوى تلك التي يفرضها المجتمع الذي ينتمي إليه» (في إشارة إلى تحرّره من الضغوط السياسيّة)، فقد يكون ضرورياً سؤاله عن إمكانية مشاهدة حلقات مستقبليّة من «مسامير» تتناول الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه سلطات بلاده في أماكن متعددة حول العالم لم يكن أولها ولن يكون آخرها سفارتها في أنقرة مع ما حكي عن تقطيع جثة الصحافي المعارض جمال خاشقجي كما حصل مع الباكستاني المسكين الذي أوقعت به «تحريّات كلب».